قبل سنوات خلت، راجعت أحد مراكز الرعاية الأولية، فمررت بمدير المركز لأسأله عن السبب وراء عدم وجود طبيب الأسنان فيعيادته، فقال بأسى: "إذا تعرف طبيب أسنان فهاته نوظفه". كانت لدينا مشكلة في ندرة أطباء وطبيبات الأسنان بسبب عدموجود الخريجين المؤهلين، أما اليوم فوزارة الصحة مع وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية أوجدتا لنا مشكلة ندرتهمبالرغم من توفرهم وبالرغم من حاجة المجتمع لخدماتهم. وقبل الحديث عن دور وزارتي الصحة والموارد الاجتماعية في بطالة أطباء وطبيبات الأسنان، دعونا نتفق أن صحة الأسنان والفممرتبطة ارتباط وثيقاً بصحة الفرد الجسدية والنفسية والاجتماعية. ولعل الصحة بمفهومها الشامل هو الهدف الذي تسعى لهوزارات الصحة في جميع الدول. إن صحة وسلامة الفم والأسنان ورعايتها منذ الصغر، والكشف المبكر لمشكلاتها وإيجاد العلاج المناسب لها هو أحد العواملالأساسية في المحافظة على الصحة. ولو أن برامج الرعاية الصحية الأولية أدرجت صحة الفم والأسنان ضمن خططها، لارتفعتمعدلات الصحة العامة، ولوفرت وزارة الصحة الكثير من التكاليف المادية التي تصرف على العلاج المتأخر، وعلى المضاعفاتالصحية الناتجة عن تدهور الفم والأسنان. لكن ولسوء الخطط الصحية، ظلت عيادات الأسنان التابعة لوزارة الصحة خالية من الأطباء بسبب عدم وجود المؤهلين سابقا،وحالياً عندما توفروا لم تقم بتوظيفهم. وبحسب صحيفة أرابيان نيوز فإن أطباء الأسنان السعوديين الممارسين (الموظفين) لايشكلون إلا 25% من مجموع أطباء الأسنان بالمملكة. كان من المفترض أن تهتم وزارة الصحة بعيادات طب الأسنان وتجعلها أولوية مثلها مثل العيادات الأخرى. وكان من المفترض أنيتم فتح عيادات طب الأسنان في مراكز الرعاية الأولية وفي المستشفيات بطريقة جادة، وليست لمجرد التسكيت، أو لإخماد ألمطارئ أو لخلع ضرس موجع، ومن ثم توجيه المريض إلى للعلاج في العيادات الخاصة، أو توجيهه إلى المزاحمة في العياداتالحكومية المكتظة. وبودي لو يجيب القائمون في الصحة على هذا السؤال: عندما يحتاج المواطن خدمة علاجية ترتبط بأسنانه فأين يتجه؟ ولو وجهنا هذا السؤال إلى أي مواطن، فإن أول ما يتبادر إلى ذهنه بأنه سيتجه إلى عيادة خاصة، ويبدأ باستعراض العياداتالخاصة التي يعرفها أو يعرفها المحيطون به. وهذا بالضبط ما أوجدته خطط وزارة الصحة من تصور في ذهنية المواطن، وقدنجحت في ذلك. والخوف كل الخوف أن ينسحب ما حصل لطب الأسنان على الطب العام. ولهذا، فإن المار في أي شارع -وبمباركةوزارة الصحة- يجد عيادات طب الأسنان الخاصة تنافس البقالات في كثرتها وانتشارها. ماذا لو خططت وزارة الصحة لفتح عيادات متكاملة، تقوم على رعاية صحة الفم والأسنان لجميع الفئات السنية، وتقوم بالكشفالمبكر، والعلاج، والزراعة، والتقويم وغيرها من الخدمات الصحية للفم والأسنان؟ لك أن تتخيل النتائج على الصحة بشكل عاموعلى توظيف الخريجين والخريجات من أبنائنا. ماذا لو تم التوسع في برامج الدراسات العليا المتخصصة، ورفع عدد الملتحقين بها بعد توظيفهم بما يسمى الابتعاث الداخلي؟ماذا لو تم مساوة الأطباء السعوديين بالأطباء غير السعوديين (من حيث الشهادة والتأهيل وجودة العمل)؟ أما وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية فتتحمل مسؤولية لا تقل عن وزارة الصحة في خلق بطالة أطباء الأسنان. فمنجهة، لابد لها من الاستجابة لطلبات وزارة الصحة في توظيف أطباء الاسنان الحكومية، من خلال إيجاد أرقام وظيفية جديدةبالمفاهمة مع وزارة المالية. ومن جهة ثانية، فلم نشهد من وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية وقفة جادة (وأركز على كلمة جادة) في توطين وظائفأطباء الأسنان في القطاع الخاص. فزيارة خاطفة لعيادات الأسنان الخاصة لترى كيف تزخر تلك العيادات بالأطباء والعاملينغير السعوديين. بل إن إحدى العيادات الخاصة، وفي تحد صارخ لقرارات الوزارة بتوطين وظائف أطباء الأسنان والصيادلة -وبعد صدوره بيوم- قامت بإيقاف عقد تعيين طبيبة سعودية في آخر لحظة، وبعد توقيع الطبيبة على العقد، حيث لم يتبق إلا توقيع المدير. وكانإلغاء استكمال توقيع العقد بحجة الحاجة إلى طبيبة أسنان تخصصية. إن وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، إذا أرادت حقا أن تخفض معدلات البطالة، فلابد أن تصدر القرارات الجادة، وأنتتابعها متابعة دقيقة. وفي نفس الوقت، لابد من مراجعة جادة لنظام العمل والعمال وخصوصا المادة 77 المسلطة على رقابموظفي القطاع الخاص. إن توجهات المملكة ومن خلال رؤية 2030 تهدف إلى خفض معدلات البطالة، من خلال التركيز على التخصصات التي تلبياحتياجات سوق العمل، ومن خلال تأهيل وإعادة تأهيل الخريجين. وكذلك من خلال مراجعة وإنشاء الأنظمة والسياسات التيتهيئ الفرص الوظيفية وتشجع (أو تلزم) القطاع الخاص على استقطاب المؤهلين السعوديين. إن من مميزات وخصائص رؤية 2030 أنها تتوقع المشكلات المستقبلية وتستهدف حلها قبل حدوثها، وهنا، لابد من توجيه سؤالإلى وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية: ما الحكمة وراء قرارات التوطين المتدرج، إذا كانت المشكلة واضحة أمام العيان،في ظل وجود عاطلين سعوديين مؤهلين يحتاجهم المجتمع؟ في بلد مثل بلدنا الفتي، أليس من الغريب أن نجد البطالة تطال أبنائنا وبناتنا المهندسين والأطباء والصيادلة والقانونيينوغيرهم من التخصصات التي يحتاجها المجتمع، في الوقت الذي يتنعم غيرهم بوظائف كانت يفترض أن تكون من حقهم؟