مدينة أودينسي (Odense) الدنماركية مدينة ذكريات الطفولة. أتذكرها نوعا ما، كما أنها ذكرتني بأمي رغم أننا لم نزرها من قبل. أرجعتني المدينة لفترة الطفولة ولامست جزءا كنت اعتقد أنه منسي. فبالمشي في شوارع المدينة والتجول بين بيوتها التقليدية في قلبها رجعت بالذكريات لما كنت أعتقد أنه خيال فقط. دعوني أوضح. مدينة أودينسي هي ثالث أكبر مدن الدنمارك وتقع في قلب جزيرة فين (Fyn). شهرة المدينة تعتمد بالدرجة الكبرى على شهرة أحد أبنائها الذين ولدوا فيها ووصلوا للعالمية وإن كان قد ولد لعائلة فقيرة. هذه الشخصية هي هانس كريستيان أنديرسون (Hans-Christian Anderson) الكاتب الشهير الذي عاش بين عامي 1805 و1875. ألف أثناء حياته كمية كبيرة من القصائد والمسرحيات والروايات ولكن ما عرف به أكثر من غيره تلك القصص الخيالية التي كان من أشهرها الحورية الصغيرة وفرخ البط القبيح وثياب الإمبراطور الجديدة وبائعة الكبريت وغيرها الكثير. في هذه المدينة وبينما أتأمل بيوتها التقليدية الصغيرة والملوّنة لم أذكر فقط قصص الأطفال التي نشأت عليها -وكان لأنديرسون نصيب منها- بل الأهم من ذلك أنها ذكرتني بوالدتي الغالية، وأسأل الله أن يحفظها ويمتعها بالصحة والعافية كونها هي من كانت تقرأ لي القصص قبل أن أتعلم القراءة وحببتني بالقراءة. تلك القصص المبكرة أشعلت الخيال وجعلتني أبحر فيه. ما لم أكن أعلمه هو أن تلك الصور التي ارتسمت في مخيلتي جراء الحكايات لها مرادفات محسوسة في الواقع ومكانها في مدينة أودينسي. لذلك أتذكرها دون أن أعيشها سوى في الخيال. السياحة في أودينسي معتمدة تماما على القصة من خلال تصميم الفضاء السردي (narrative space) الذي يدور حول أنديرسون وحياته. فعلى الطرقات مسار موضح لأهم محطات الكاتب في المدينة وهو معلم بمسار على شكل خطى تتوقف مع لوحة أمام المعالم المهمة في حياته. هذه تشمل البيت الذي ولد فيه وآخر نشأ فيه كما أنه يمر من مدرسته وكذلك ملجأ المجانين الذي كان يزوره ويستمع فيه لقصص المجانين وغيرها من المحطات. يعاد الآن تخطيط قلب المدينة بمشروع كبير قيد الإنشاء وسينتهي بحلول 2020 ويشمل وضع حديقة ومبان متعددة ليستطيع الزوار من خلاله استشعار القصص الشهيرة وعيش تجربتها بشكل أفضل مع متحف متكامل عن حياته. المدينة بأكملها تتكئ على تاريخ وأعمال شخص واحد ولد قبل أكثر من 200 عام واستطاعت بذكاء أن تستثمر في إرثه الأدبي لتجذب السياح الداخليين والخارجيين لها. عام 1867 منح أنديرسون وسام البلدة ولقب بالمواطن الشرفي لها كثاني شخص واحتفل به من خلال إضاءة الساحة بالشعلات النارية وكان تحقيقا لتنبؤ له عندما كان صغيرا وهو أن اسمه سوف ينير بلدته. ماذا لو علم وقتها بأنه هو وحياته وأعماله الأدبية سوف تعيد تشكيل قلب المدينة وتوجه تطورها؟ قد تبدو أودينسي مدينة أحادية التوجه برسالة واضحة عن مكانتها في العالم ولكنها مدينة حية تعمل على تحسين حياة سكانها من خلال مشاريع واسعة التوجه لم أركز عليها هنا. لكل منا طريقة لرؤية مدينة معينة ولكن بالنسبة لي كانت أودينسي نافذة على طفولتي وشاهدا لحب أم لطفلتها من خلال القراءة.