نُقطة الالتقاء الواضحة بين الراوي الشعبي والمُترجم هو أن كلاً منهما يتعامل مع نص ينبغي عليه نقله مع مُراعاة الدقة والأمانة في النقل، وأي تصرف يقوم به أحدهما قد يُعد خيانة للنص المنقول بغض النظر عن دوافعه ومسبباته والهدف منه، ومما يُعزز هذا الاعتقاد ويجعل الجميع يتفقون على استخدام مصطلح أو لفظ شديد القسوة "خيانة" في حق الراوي أو المُترجم الذي يتصرف في النص المنقول بأي شكل من الأشكال هو ما قد يترتب على التصرف في النص بالتحريف أو الحذف أو الإضافة من نتائج، إضافة إلى اكتشاف عمليات كثيرة للتحريف في النصوص مع مُحاولة الإيهام بأنها صحيحة وبالغة الدقة، ولاشك في أن اكتشاف التصرف ليس أمراً سهلاً لتعدُد أساليب الخداع التي يستخدمها الناقلون، ويؤكد الناقد الكبير عبد الفتاح كيليطو في كتابه (أتكلم جميع اللغات، لكن بالعربية) على أن عبارة (ترجمة كاملة أمينة) التي تُكتب على أغلفة الروايات والكُتب المُترجمة لتأكيد نزاهة المُترجم عبارة خادعة ينبغي أن نحترس منها كاحتراسنا "من الذين يُكثرون أداء القَسَم"، لأنهم "كذابون في معظمهم. القسَم معناه اعتراف بالكذب، وإعلان عن الجرم"، ويُضيف كيليطو: "بناء على ذلك فإن التنبيه "ترجمة كاملة أمينة"، ليس إلا نوعاً من الإشهار المُزيف، وخدعة تجارية، إنه يعني بكل وضوح، بالنسبة إليّ، أنا الذي أصبحت خبيراً في شؤون أداء القسم، هذه "ترجمة ناقصة خائنة"..! كلام كيليطو السابق عن خيانة المُترجمين ينسحب أيضاً على الرواة وبعض الباحثين في مجال الأدب الشعبي ممن يمتلكون جسارة مُفرطة في التغيير في النصوص الشعرية أو النثرية التي يروونها أو يتعاملون معها، وقد ثبت في حالات عديدة أن الراوي الشعبي قد يستخدم لتوثيق روايته التي ينقلها عبارات من نوع: "سمعتها من لسانه"، أو"نقلتها عنه شخصياً" يتبين فيما بعد أنها عبارات مماثلة لتنويه المترجمين (ترجمة كاملة أمينة) جاءت لتستر تحريفاً يصعب كشفه، إذ يتعسر في الغالب اكتشاف التحريف في النص المنقول عن شخص مُتوفى إلا في حالة واحدة وهي الحصول على النص نفسه من مصدر آخر موثوق يُخالف أو لا يتطابق مع النص بصيغته الأولى. إبراهيم الخالدي تعامل الراوي أو الباحث الشعبي مع النصوص الشعرية والنثرية قديمها وحديثها يوضح مدى إمكانية قيامه في بعض الأحيان بإجراء بعض التغييرات الاضطرارية التي لا يقصد منها التحريف بمعناه السلبي، ولكنها قد تُكلفه كثيراً وتجعل من مسألة اتهامه بخيانة النص أمراً مُحتملاً ووارداً، ما نُسميه تغييرات اضطرارية قد تفرضها عوامل داخلية تتعلق بالنص نفسه وهي تغييرات سبق أن تساءل عن مشروعيتها الباحث القدير إبراهيم الخالدي وأشرت إليها في مقال (ترميم القصيدة)، إذ يجد الباحث حيرة كبيرة في إيراد نصوص شعرية تتضمن أبياتاً مُختلة الوزن أو تتضمن مفردات فاحشة أو محظورة دون تعديل أو تبديل، أو في القيام بحذف أجزاء من النص قد يؤدي نشرها لإثارة إشكاليات مع أي طرف، أو ترقيع وترميم النص في حالة وجود فراغات سببها سقط أو طمس لبعض الكلمات. بعد إصدار الشيخ عبد الكريم الجهيمان (1330-1433ه) رحمه الله للجزء الأول من مؤلفه الشهير (أساطير شعبية من قلب جزيرة العرب)، الذي جمع فيه الحكايات الشعبية التي يتم تداولها في الجزيرة العربية، واجه عدداً من الانتقادات والاعتراضات وتلقى بعض الملاحظات التي تحمل طلباً ضمنياً بإلغاء وإزالة بعض الحكايات من مُؤلَّفه أو القيام بإعادة صياغتها أو حذف أجزاء منها بما يتناسب مع فكر ورغبة من أبدوا تلك المُلاحظات، وكانت المُلاحظة أو المأخذ الأبرز هو "أن أمور الجنس تتجلى في معظم تلك الأساطير وتشغل الجانب الهام منها"، والشيء الرائع في تعامل الجهيمان مع هذا المأخذ هو ذكره له بشكل صريح والرد عليه بلغة هادئة وشجاعة استغرقت معظم مُقدمة الجزء الثاني من سلسلة الأساطير الخمسة، صحيح أنه لم يُكلف نفسه مشقة الحديث عن مسألة مفروغ منها وهي الأمانة العلمية في النقل وأهميتها إلا أنه اكتفى بسرد حُججه المُقنعة التي أكد فيها أن الموضوع الذي جاء الاعتراض عليه يُمثل جانباً لا يُمكن فصله عن جوانب الحياة الأخرى، وأنه موضوع مُتغلغل في كتب الأدب والتاريخ والحديث والفقه وفي "كل مجالات الحديث من شعر أو نثر أو حوار" مما يعني استحالة تجاهله أو إزالته، وموقف الشيخ الجهيمان نموذج من النماذج المُشرقة على الالتزام بالأمانة العلمية ورفض ارتكاب أي خيانة في النقل تحت أي ضغط. مُهمة نقل النصوص التي يضطلع بها الرواة والمترجمون مهمة شديدة الحساسية وتتطلب قيام الناقل بالمُحافظة على النص الأصلي بأدق تفاصيله، لاسيما وأن تصرفه فيه -حتى لو جاء بحُسن نية وبدوافع داخلية ترتبط بالرغبة في إخراج النص بشكل أفضل أو تحت ضغوط خارجية تتعلق برغبة المتلقي- قد لا يُفسر إلا على أنه تحريف وخيانة تستوجب التشهير والإدانة. عبدالفتاح كيليطو غلاف أساطير شعبية