إنّ المفكر المغربي عبدالفتاح كيليطو في كتابه «في جو من الندم الفكري» الصادر عن منشورات المتوسط في طبعته الأولى 2020 يعيد نسج ما وقع فيه طوال مسيرته ويرمم ما أحدثه سهوًا، أو انزلاقًا باعترافات جادّة، وقد تماهى في كتابه هذا مع التأصيليين القدامى بتراثنا العربي: كالجاحظ، وأبي العلاء المعري، وابن رشد.. وغيرهم، وبالمقابل استلهم وأضاف أفضال تراثه العربي عليه طوال مسيرته الفكرية والتأليفية، حيث أشار إلى كثير من استدراكاته المهمة التي شكّلته سابقًا كمبدع يرى أنه مهما استقى العِلم من عدة لغات إلا أن تراثه يجذبه؛ لأنه يعود به لمصدره الخام، ونتاجه العربي الذي ينتمي إليه مهما تشكّلت رؤاه، وأفكاره.. تمامًا كما حدث مع «بورخيس» الذي توفي في العام الذي عقد فيه العزم على تعلّمه للغة العربية. عدا أن كيليطو -برأيي- يختلف كثيرًا عنه؛ إذ أنه كان متدرّعًا بعربيته منتميًا لفصاحته وثقافاته وتُراثه محترمًا كل ما ينهل منه ومشيرًا إلى صاحبه ومصدره مهما كان ذلك المصدر فيما لو عدنا إلى قصة بورخيس الشهيرة مع بحث ابن رشد -لوجدنا اختلافًا كبيرًا- إضافة إلى أنّ لويس بورخيس حين أقدم على تعلم العربية جاءها كما لو أنه يبحث داخلها عن إجابة للقدر حين قال في أشهر أبياته الشعرية: «بأية لغة سيكون عليّ أن أموت» ليجيء كيليطو اليوم في كتابه -المهم- هذا بتفسير، أو لنقل ردًا على بيت بورخيس قائلًا: «سيموت بلغة خاصة لم يكن يتوقع أو يحدس أنه سيموت بها، لغة جديدة سيتاح له اكتسابها. أية لغة؟ العربية التي شرع في تعلمها خلال السنة التي توفي فيها» ويعود كيليطو ليضيف: «تعلم بورخيس العربية وتوفي، أو ربما من الأصح تعلم العربية فتوفي». وبالنظر إلى كثير مما ورد في هذا الكتاب ستتجلى لنا عدة دروس «التواضع الفكري» أهمها. يقول: «حين كنّا تلاميذ كان معلمونا ينصحوننا، بخصوص تمرين الإنشاء، أن نراجع ما كتبنا بهدف استدراك ما قد يكون فيه من أخطاء لغوية، قبل أن نسلّمه لهم للتصحيح، كنا نعتبر الخطأ شيئًا عرضيًا، مرده إلى الإهمال ويكفي قدر من التركيز لتلافيه، مراجعة سريعة وتنتهي مهمتنا، هكذا كنا نرى الأمر، أما اليوم فإنني أعيد النظر فيما كتبت عشرات المرات، ولا أتوقف إلا وفي ذهني أنني إن أعدت القراءة سأكتشف هفوات جديدة.» ص45. إنّ القارئ بتركيز عالٍ ودقةٍ متناهيةٍ لهذا الكتاب -تحديدًا- من مشروع كيليطو الفكري قد يُفاجئ بكمية دروس التواضع التي أرسلها بسجيته وطبيعته -والذي التقاه واقعًا ولو لخمس دقائق- سيعي جيدًا أنّه لا يكتب ليجازف بما يقول، أو ينتحي منحىً غير مقاصده الفكرية وسلامه الإبداعي مع نفسه ومع قارئه، ستجده مرةً يتراجع عن بعض ما قاله ثم وجد له في لاحق مسيرته دلائل ألزمته بالتراجع بشجاعة يقينية. فهل يمكننا إيجاد هذه الجراءة على الذات لجلدها جلدًا حسيًا ونفسيًا وفكريًا -عما مضى- كما لو أنه يتصالح مع ما هو قادم عليه من حياة فكرية أراد لها جوًا خاليًا من كل المُعكّرات.. الندم أحدها!. إنه كتاب يعلمك فنّ التراجع ويمنحك دروسًا عملاقة في كيفية التوقف عن الوثب على الأفكار. كتاب سيعرفك على الكنوز المعرفية التي عاناها حتى بلغ بها إلى مرحلة النضج الفكري. وإنني لأرى أن تواضع صادر عن مثله، وتراجع، واعترافات صادقة ونزيهة ما هي إلا إضافات إلى علمه الجليل، وفكره المنير، وزُهده التام، إنه بهذا يقدم درسًا نسيه أو قلّص الأدباء والمثقفين العرب اهتمامهم به في العقدين المنصرمين ألا وهو درس: «التحقيق وأهميّته». وكيليطو بكل هدوء حقق في كتابه الصغير الحجم هذا مجمل نتاجه، وقدّم منهاجًا خاصًا به يزيده صفاءً ذهنيًا ويزيدنا اصطفاءً فكريًا، ولم يتوقف عند هذا الحد وإنما أضاف أدلّته ودلائله وترجماته التي استند عليها في عددٍ من تراجعاته وندمه الفكري الكبير الذي يعيدنا إلى مفهوم وفهم عمق التجارب ووجوب احترامها وعدم الاعتزاز والاعتداد بأنها صفوة الصفوة، بل إنّ بعضهم يوصلها برأيي إلى «التنزيلية» وأنها مرت على نقّاد، وحاذقين ولم يلحظوا عليها شيئًا. ولعلي أختتم مقالتي هذه بذكر ما همس به إلينا «كيليطو» أثناء تواجده ضيفًا على «مركز إثراء» بمسابقة «أقرأ» حين قال ردًا على حديث خاص دار حول «عناء الأدباء» همسه ذاك الذي ما زلت أسمعه حتى الآن وهو يقول: « لقد حفرنا في الصخر...» وهذه الكلمة وحدها كفيلة بإعادتنا لقيم كبرى قد تكون بحجم سيرة ذاتية للمفكر القدير عبدالفتاح كيليطو.