استكمالاً لما ذكره المستشرق السويسري بوركهارت في حلقة ماضية والذي زار جزيرة العرب بين عامي 1809 و 1812م عن محاولات زعماء الدولة السعودية الأولى السيطرة على حالة الفوضى السائدة في جزيرة العرب حيث كانت الصحراء والمدن الداخلية تخضع سابقاً لحالة من الفوضى التي ما زالت قائمة بين تلك القبائل غير التابعة للدولة إلا أن الإمام عبد العزيز ثم ابنه سعود علّما قومهما طاعة النظام والمحافظة على الأمن العام والخضوع في خلافاتهم لقرار القضاء دون السلاح ثم يعرج على بعض من ميزات الإمام سعود بن عبد العزيز الإمام الثالث للدولة السعودية الأولى الذي عرف بأنه رجل عادل جدًا ومن تلك الميزات نفاذ بصيرته وفراسته في كشف شهادات الزور فوراً في مجالس الأحكام عند التقاضي حين إخضاع الناس لسلطة القضاء فكان يعاقب شاهد الزور دائماً بطريقة فريدة – ثم يبين بوركهارت لقرائه غير المسلمين أن شهادة الزور في الإسلام تعد من كبائر الذنوب وحكمها تعزيري يقدرها القاضي بحجم موضوع الشهادة وضررها وجرت العادة أن تصل إلى السجن والجلد والتشهير ومع شدة سعود وقوته إلا أنه وفقاً لما أكد له أهل الدرعية لم تصدر منه أحكام شرعية بالقتل بعد وفاة والده إلا لعدد من المذنبين يعدون على أصابع اليد الواحدة حيث اتخذ من نظام الغرامات المباشرة سبيلاً لفرض حكمه العادل لمنع السلب والنهب والغزو والفوضى، ولأن عرب الصحراء كما قال نادراً ما كانت لديهم نقود فإن سعود كان يغرمهم خيلاً وإبلاً وغنماً. وكانت تلك الصرامة هي التي أثارت ضده كثيراً من الأعداء من عربه أنفسهم المستفيدين من حالة الفوضى، في نفس الوقت لم يلتفت للحماية التي كان يمنحها العرب للمذنبين وأصحاب الجرائم حيث ألغي نظام الدخيل في مناطق حكمه مادامت تستغل في إفلات شخص من يد العدالة وقصرها فقط على حماية المذنب من ثأر فوري على أيدي أقارب المقتول حتى يطلبه الشرع الذي فرض في الدولة الجديدة ويجب عليه حينذاك أن يستجيب للمثول أمام المحكمة. ويمضي إلى أن حماية شيوخ القبائل الكبار اقتصرت على المذنبين المتهمين بجرائم صغيرة ففي مثل هذه الحال يضع المذنب نفسه تحت حماية شيخ له نفوذ فيشفع له الشيخ عند سعود وينجح في الأغلب في الحصول على الإعفاء أو تخفيف العقاب إلى غرامة مالية صغيرة. وكانت الجريمة التي كثيراً ما عاقب عليها سعود بحسب قوله اختلاط أتباعه بالمبتدعين وفي بدء نشر العقيدة السلفية كانت أكثر الأوامر صرامة أن تقطع كل الاتصالات بينهم وبين الرافضين للتغيير الجديد وكان يقال إن السيف وحده هو الذي يجب أن يستعمل في مجادلة تلك الأقوام. ثم يصل إلى أن الأمن الذي نتج عن الإدارة الصارمة للعدل أسعد كل أولئك الذين كانوا معرضين للنهب والفوضى من أي نوع ولهذا فإن حاضرة نجد والحجاز واليمن أصبحوا مخلصين جداً للنظام الجديد لأنهم عانوا كثيراً من مساوئ الماضي. وأصبحت القوافل المحملة بإنتاج البلاد تمر عبر تلك المناطق دون التعرض لأذى ولم يعد الناس خائفين أبداً من تدمير محاصيلهم أو تخريبها بأيدي جماعات السلب والنهب ولكن بعض هؤلاء الذين عاشوا دائماً على نهب الآخرين ومهاجمتهم وجدوا في البداية أنه من الصعب أن يطيعوا حكومة قواعدها الأساسية موجهة ضد أسلوب حياتهم ولذلك لم يكن غريباً أن قاومت هذه الفئات تبني العقيدة الجديدة حتى أجبرتها على ذلك قوة كبرى وقد برهنت بثوراتها المتكررة كيف كانت متضايقة من الانضباط الذي أدخل على أسلوب حياتها إضافة إلى كرهها لدفع الزكاة. بالجهد والإخلاص تمت السيطرة على حالة الفوضى في جزيرة العرب