ظهر الشعر عند العرب قديمًا منهلاً ثرًّا ومعينًا فياضًا تتدفق منه ينابيع الحكمة والبلاغة والنصح والتوجيه والإرشاد والخيال والإلهام إلى جانب أغراض متعددة في المديح والرثاء والهجاء والوصف والفخر والحماسة والاعتذار والنّسيب والغزل والتّشبيب، وقد كان الشعراء العرب الأقدمون (الأوَلْ) ذوي ملكات لا تجارى وفصاحة لا تبارى، وقد أتى ذلك بحكم أنهم لا ينطقون ولا يتحدثون في أشعارهم ومجالسهم وملتقياتهم إلا باللغة العربية الفصحى تلك اللغة النقية الخالصة من الشوائب، لذا كان شعرهم ولا يزال قبسًا مضيئًا ونبراسا منيرًا للكثير من أركان البلاغة (البديع، المعاني، البيان)، ولكن قد تَنبو بعض أغراض الشعر عن السلوكيات السوية والأعراف المرعية فتنصرف نحو الهجاء المقذع والقدْح الجارح، وقد يصعب تعريف الشعر بطريقة تشمل جميع أنواعه وأغراضه المتعددة المتباينة حيث إن ثمة عددًا من التعريفات التي قد تعطي معنى عن ماهية الشعر منها أن الشعر عُرّف بأنه كلام موزون مقفَّى دالٌ على معنى، ويكون أكثر من بيت. كما عرَّفه ابن خلدون بأنه: "الكلام البليغ المبني على الاستعارة والوصف المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والرَّويّ". والشعر هو شكل من أشكال الفن الأدبي وفيض تلقائي لمشاعر جيَّاشة تتبنى جماليات الوصف والتعبير والخيال والصفات مما يُحدث نغمًا موسيقيًاً عذبا تطيب به النفس وتأنس فيه الروح ويطرب له السمع، كما يؤدِّي إلى حركة ذهنية تثير الانتباه عن طريق الاختلاف في المعنى، ويزداد الشعر وقعًا وجمالاً وتأثيرًا إذا كان نابعًا من طبيعة المعاني التي يعبر عنها الشاعر ولم يكنْ مُتَكلَّفًاً أو مبالغًا فيه وإلا لكان مجرد زينة شكلية لا جدوى فيها ولا قيمة لها، وهذا الإبداع يضفي على المعاني سحرًا وجمالاً مميزًا بل ويكسبها حللاً قشيبة يستطيع الشعراء استغلالها خير استغلال في إحداث الاستثارة الفنية والاستجابة المنشودة لدى المتلقي، وبالرغم من هذا الاحتفاء الكبير والإشادة العظيمة بالشعر سواءً أكان في العصر الجاهلي أم في العصور الأموي والعباسي والأندلسي وما بعدها إلا أنه لم يحظ بالتدقيق والتدوين الذين يصونانه ويحفظانه ويُبقيان عليه، الأمر الذي صار معه عرضه للانتحال والتحريف والتبديل والتشويه، فمثلا كانت الوسيلة لانتقال الشعر وتداوله بين الناس تتم بواسطة رواته أمثال حماد بن أبي ليلى الديلمي، المعروف ب"حماد الراوية" والأصمعي وخلف الأحمر والمُفضَّل الضبّي وغيرهم، إذ كانوا يستقون رواياتهم من الشعراء أنفسهم أو من القبائل والأعراب البدو الرحَّل، لذا يمكن أن نقرأ بيتًا في مكان ما ثم نقرؤه في مكان آخر فنجد ثمة اختلافًا وتباينًا في صدر أو عجز منه، ولكن مع حفظ للوزن والقافية والمعنى، وإليك بعض الأمثلة، ومنها قول كثيِّر عَزَّة: (ولمّا قضَينا مِن مِنى كلَّ حاجةٍ) ** ومسَّحَ بالأركانِ مَن هوَ ماسحُ وفي مكان آخر يظهر اختلاف في الشطر الأول من هذا البيت، وهو: (ولمَّا قضى كل ذي حج حجيجه) ** ومسَّحَ بالأركانِ مَن هوَ ماسحُ كذلك يقول "الحطيئة": (الشعر صعب وطويل سلمه) ** إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه (هوت به إلى الحضيض قدمه) ** يريد أن يعربه فأعجمه وفي رواية أخرى : (والشعر لا يسطيعه من يظلمه) ** يريد أن يعربه فيعجمه (زلت به إلى الحضيض قدمه) ** يريد أن يعربه فيعجمه وفي رواية أخرى : (والشعر لا يسطيعه من يظلمه) ** يريد أن يعربه فيعجمه كذلك في أجمل ما قاله الشاعر الكبير الطيب المتنبي في وصف شعب بوان: وأمواه تصل بها حصاها ** صليلَ الحلي في (جيد) الغواني وفي مكان آخر (أيدي بدلا من جيد). وهناك شاعر وصف الذئب على أنه شديد الاحتراس وأنه عند النوم يراوح بين عينيه فتكون إحداهما مُطبقة نائمة وتكون الأخرى مفتوحة حارسة، ولهذا يقول شاعر في وصف شدة حذر الذئب ويقظته: ينام بإحدى مقلتيه ويتقي ** بأخرى (الأعادي) فهو يقظان هاجع. وفي مكان آخر (المنايا بدلا من الأعادي). أيضا قول الشاعر الكويتي خالد الفرج (1895-1954): سطعت لعلم (الكيمياء) حقائق ** إلا السياسة غالها إخفاق، ولكن في رواية أخرى استبدلت "الكيمياء" ب "الكهرباء" حيث رؤي أن الأخيرة هي الأكثر قربًا ومدلولاً للسطوع والضياء مقارنة بالأولى ولكن دون الإخلال بالوزن أو الجَرْس. وإن كان هذا التباين غيضا من فيض، إلا أنه يجعلنا ندرك أن الشعر غير المدوَّن والموثق أو الذي يتناقله رواته وراغبوه ومولعوه قد يكون عرضة للتحريف والتبديل والتأويل بل والإسناد لغير قائله، وقد يكون ذلك إمَّا عرضًا عن حسن نية أو رغبة في استبدال مفردة بأخرى تكون أجدى دلالة وأقرب معنى، وغالبًا ما يلاحظ أن هذه التغييرات تطال صدر البيت دون عجزه حيث إن الأخير يحتوي على القافية والرَّويْ مما يجعله غالبًا في منأى عن كل ذلك. *جامعة الملك سعود