رواية روحْسد، للكاتب محمد الطيب، تحكي عن ثنائية الروح والجسد التي قد يقع بعض الناس في تعقيداتها، تلك الثنائية التي قد تعذبهم طوال حياتهم إذا لم يجدوا حلاً لها، يضع الكاتب مقولة لمحيي الدين بن عربي الملقب بالشيخ الأكبر وسلطان العارفين في مقدمة روايته. هذا الاختيار ليس عبثاً وإنما هو اختيار يقود القارئ نحو مجاهل الروح والجسد في علاقتهما الحلزونية. ترصد الرواية بعض الشخصيات بفهم عميق للطبيعة الإنسانية ودوافعها وأفعالها، وقد أبدع الكاتب في وصفها ورسم شخوصها بتميز مذهل، وبسرد طاغٍ لغةً وفلسفةً. استحسن محمد الطيب اختفاء صوت المؤلف فسرد حكايته في روحسد بصوت العاشق والمعشوق، الحر والمسجون، جسدا وروحا. يقول باختين: «تشتمل الرواية المتعددة الأصوات على العلاقات الحوارية بين جميع العناصر الروائية مثلما يحدث عند مزج مختلف الألحان في عمل موسيقي» وهو ما تجلى بيناً في روحسد من خلال تعدد النصوص فيها والشخوص والسرد واللغة وكذاك الثيمات. ليست رواية ولا روايتين بل ثلاث روايات في رواية. غزلها وعزفها الكاتب بمهارة، أسترجع ذاكرة الجسد والمكان، ويقظة الضمير المتعب، وأظهرت عجز الروح المتألمة بسبب علمها وماضيها؛ «هل تدرك من هم أسعد أهل الأرض؟ إنهم المتبلدون الذين اكتفوا من هذه الحياة بلقمة طيبة وجسد نضر، ولكن من تنهض عندهم الروح أولئك كتب عليهم الشقاء إلى الأبد، فالروح رفيقة الضمير، والضمير في أحكامه أكثر ظلماً وتعسفاً من المجتمع والأسوأ من ذلك أنه أكثر إقناعاً أيضاً، وهنا تبدأ الحلقة المفرغة في التكوين، غرس سيئ، ضمير زاعق، ثمرة سيئة فغرس فاسد، أنا وأنت ندور في ذات الحلقة، أنت تجاهد للخروج منها بسخريتك بعكسي فأنا ما زلت أركض رغم وعيي ببؤس مصيري المنتظر. العلم مع العجز شيء مؤلم يا صديقي». رواية طين لازب التي حضرت في شكل مسودة بسبعة فصول، حكاية الرسام الذي أصبح متشرداً بعد أن فر من ماضيه حيث الطين المدنس في الطفولة والروح الهائمة كهلاً. ومن خلالها يقدم الكاتب رواية موازية تقريباً لروحسد إذ تطرح هي نفسها تشعب العلاقة بين الروح والجسد. فالمتشرد الذي ذاق عذابات الجسد مغتصباً من قبل كهل يعمل لدى عائلته هاجر إلى نعيم الروح في علاقة حب لكنه هُجر من طرف حبيبته وأقام في فضاء الشوارع الواسعة هرباً من ضيق الجدران ليعود في النهاية إلى جدرانه الأخرى التي تقود خيري عبدالعزيز المؤلف إلى اكتشاف أنه ليس يكتب إلا سيرته بكل تفاصيلها، «عندما تكون جنتك ونارك في ذات المكان، عشقك ومقتك في ذات الروح، فرحك وحزنك في ذات القلب، عندما يكون بين الذكرى ونقيضها زمن لا يكفي للنسيان، لا مفر من الهروب يا عم صالح» رواية إيلات هي الرواية الثالثة التي كان حضورها على هامش الرواية الإطار على شكل مقاطع داخل فصول روحسد، وبطلتها زينب التي تفطنت مبكراً إلى أن الحياة الحقيقية روح وجسد وانبعاث ولكنها انتهت هي الأخرى نهاية غامضة. لقد قدمت لنا الرواية السودانية عمالقة أمثال الروائي الطيب صالح والروائي أمير تاج السر.. وغيرهم، يبشرنا محمد الطيب ببزوغ نجم جديد بدأ يُحضر له مقعداً بين أسماء وقامات الرواة السودانيين والعرب. مقتطفات من الرواية: - * ما نحن عليه هو حقيقتنا، الحياة طريق في اتجاه واحد نظن أننا نختاره ولكنه هو من يختارنا ويختار محطات التوقف ومنعرجات الطريق أيضاً، عندما أنظر إلى داخلي أدرك أن كل أخطائي التي أفضت بي إلى هنا هي أخطاء ظرفية ولكنها صحيحة من واقع أنني كنت أقاتل من أجل الوصول إلى هنا ولم أعد أملك رغبة الوجود في مكان آخر. * لا يمكن أن يوجد شخص بهذا القدر من التهذيب والأدب والحلم، العالم أكثر قبحاً ليسمح لمثل هؤلاء بأن يكونوا حقيقيين، العالم يشبه قسوة أبي وأنانية أمي وكره عمتي، أين الوجه المظلم لخيري؟ أمثال خيري يخلون بالتوازن الذي خبرته الحياة، لا استثناءات في الواقع، لكل منا وجه مظلم، خيري فقط أجاد إخفاءه عني وعن الجميع، عندما أجده سيعود الاتزان لحياتي. * لم يتغير شيء لأني رحلت من المكان طالما ظننت أن للمكان ذاكرة، ولكن نحن ذاكرة المكان، ينسانا فاتحاً ذراعيه لقادمين جدد ويورثنا ذاكرة متقدة بالحكايات. * هؤلاء الموتى تجدهم هادئين ساهمين، يقابلونك في الطريق فيتجاهلونك، أو يعيرونك اهتماماً أسوأ من التجاهل، يتميزون بتلك النظرة العميقة الحزينة والملامح الكئيبة، قد يثيرون غضبك ثم استياءك ثم شفقتك، هؤلاء هم الموتى الاحياء كما أصنفهم، يعيش أحدهم بين الناس ويذهب إلى العمل ويقوم بواجباته الاجتماعية اتجاه الآخر ولكنه فقد الإحساس بطعم الحياة، فهو يعيش في انتظار موت الجسد، مثل هذا قتلته الخيبات، خيبة الوطن أو خيبة الحبيبة، الخذلان هو من يسبب هذا الموت، ويتميز هؤلاء الموتى الأحياء بالشفافية وشدة التفاؤل والنظرة المشرقة للغد فعندما تصيبهم ضربات القدر تقصم ظهورهم فلا تعود للانتصاب مرة أخرى. * قرأت مرة أن أحدهم وُجد منتحراً بعد أن قطع جسراً للمشاة ثم وجدوه قد وضع رسالة في أول الجسر كتب فيها؛ لو ابتسم لي أحد قبل أن أقطع هذا الجسر فلن أنتحر. * البيوت مثل الإنسان، يؤلمها الإهمال ويقتلها الهجر.