رواية المشي في حقل الألغام، للكاتب صلاح الدين أقرقر، لقطة اجتماعية موفقة من كاتب بارع، أعتمد فيها على تقنية «تعدد الأصوات» وبشكل قد يبدو في البداية غير متناسق، إذ احتل صوت «فاطمة البوكيلي» معظم جسم الرواية، مع قسم وافر في بدايتها ل»أحمد الناصري»، أما الفصول الأخيرة فقد تكلمت على لسانها شخصيات ثانوية متعددة، لا شك بأن القارئ سيستمتع بالأحداث، وباللغة السليمة والأنيقة للكاتب، وبأن حرص الكاتب ومجهوده في بناء الشخصيات حتى الثانوية منها. مع جُمل فلسفية عميقة «ثرثرة الأخرين عن مآسيهم ما هي إلا مثل رواية مسلية تستجلب لك النوم أو تدرأ عنك الوحشة، الإنسان مجبول على حب التجريب، لا يستنير قلبه يقيناً إلا إذا عاش التجربة بحلوها ومرها ثم راح بعد ذلك ينتشي بسرد فتوحاته متلفعاً بثوب بطل لا يلين، أو يبتئس بسرد إخفاقاته متقمصاً دور مظلوم حزين». كما أظهر الكاتب قدرة على استخدام التنصيص من الآيات والأحاديث النبوية، والأمثال العربية القديمة شعراً ونثراً مما يبرز قدرة الكاتب اللغوية وتمكنه من الكتابة السردية الشعرية واللفتات الفلسفية، برغم أن ذلك يقرب مستوى السرد بين شخصيات الرواية التي يفترض بأنهم مختلفي القدرات والظروف. يكتب صلاح الدين أقرقر عن القهر الاجتماعي لذلك هو يبحث لأبطاله عن وطن آمن فلا يجده، عن عمل منظم فلا يجده، عن غد أفضل فلا يجده، فحياة أبطاله أشبه بمن يمشي في حقل ألغام، كل خطوة يخطونها هي مشروع انفجار مميت، معظمهم يهلكون في وسط الطريق، والقليلون منهم ينجون بأعجوبة «بطلة لأنك قضيت كل سنوات عمرك تمشين في حقل ألغام دون أن يتمكن الموت من النيل منكِ، كلما انفجر في وجهك لغم نهضت أقوى من السابق لمواجهة اللغم الموالي بشجاعة لا مثيل لها». ركز الكاتب (أقرقر) على آفة الإرهاب بوصفه سلوكاً إجرامياً هداماً، موجهاً نحو المجتمع وأحياناً نحو الذات، هو نتيجة عملية لمقدمات نظرية، يخضع الإرهابي أولاً لغسيل دماغ، ولأدبيات متطرفة ومتوحشة تُحشى في رأسه وتملأ دماغه بالأوهام والروئ الحالمة، ثم بعد التشبع بتلك الأدبيات الهدامة يُنتقل إلى التنفيذ، فكان لها المحور الرئيس في تربيط أطراف الحكاية ببعضهم البعض. ستبقى رواية (المشي في حقل الألغام) رواية جميلة تضمن لقارئها متعة أدبية على مستوى اللغة وحتى على مستوى الحبكة والأحداث، رواية اجتماعية ذات أبعاد فلسفية؛ «إن بقاء المهزوم في أرض المعركة ذل يحول بينه وبين الاستقواء من جديد لأنه يفت في عضده ولا يتركه إلا وقد مات ميتة الجبناء. أوليس الهروب أفضل من المكوث في أرض تذكرنا كل ذرة من ترابها بفواجعنا»، وهو المجال الروائي الذي صار اليوم للأسف الشديد غير مرغوب فيه، من بعض الكتاب والناشرين، بل وحتى من بعض القراء، رغم احتوائه على مساحات إبداعية شاسعة، تحتاج فقط إلى كُتّاب مبدعين مثل (صلاح الدين) يضع الإنسان حيث يجب أن يكون، محور الاهتمام. مقتطفات من الرواية: * إذا كرهت شيئاً فلا تحاول الهروب منه، فما فعلت ذلك إلا ووجدته ماثلاً أمامك في كل سبيل، وإذا أردت شيئاً فلا تركض وراءه، يكفي أن تهرب منه وسيجري خلفك لاهثاً. * تهت في السوق بين جحافل الرجال والنساء مثل قطرة بين الأمواج، وأنا أسخر من نفسي، بعدما فطنت إلى أنني إنما أسعى حثيثاً لإيجاد حدث، مهما بلغت درجة تفاهته، أسد به شقوق الفراغ التي نخرت أيامي، وأوقف زحف الذكريات الموجعة التي داهمت أحلامي. * أن يرغب شخص ما في سرد قصة حياته عليك بعد دقائق قليلة من تعارفكما فذلك لأحد سببين لا ثالث لهما: فإما أنه يحس بأنك قريب منه جداً إلى الدرجة التي تجعله يتعرى أمامك دون أدنى حرج وكأنه يتعرى أمام نفسه، أو أنه يحس بأنك غريب عنه جدا للدرجة التي تجعله يشعر بأنه يرمي بأسراره في قعر بحر لا قرار له. * ليس كل من يحمل حقيبة سفر قد ضرب مع السعادة موعداً لن تخلفه في أول محطة، أكثر المسافرين مسفرون، وأكثر المهاجرين مهجرون، وأكثر الراحلين مرحلون، أغلب الذين يتركون ديارهم لا يفعلون إلا هروباً من الموت، أو فراراً من سياط الاضطهاد أو لسعات الجوع، ودار المرء قد تكون بلده أو بيته أو قلبه. * إن الإنسان يحتاج إلى الحزن حاجته للسعادة، لذلك فكلما شعر الإنسان أن تيار السعادة يجرفه راح يبحث عن الحزن لخلق التوازن الضروري للحياة الطبيعية. خالد المخضب