كتاب تراتيل ثعابين البحر للكاتب السويدي باتريك سفينسون، مزيج من السيرة الذاتية وتاريخ علم الإحياء، يسير الكتاب في مسارين متوازيين، الأول يرويه المؤلف بضمير المتكلم، فيما يشبه السيرة الذاتية، من ناحية علاقته بثعابين البحر منذ صغره، بالإضافة لوصف طقوس الصيد وأدواته وآلياته. ويذكر أنواع الطعْم، وأنواع الثعابين، وطرائق طهوها، ومهارات الأب في التعامل معها، ولذلك تشكل المشاهد الحية منطلقاً للتأملات المجردة، والوقائع المسرودة يتم معظمها في إطار العلاقة بين الأب والابن، منذ طفولة الثاني حتى وفاة الأول. هذا المسار فيه رقة وعذوبة عكف فيه المؤلف على وصف كل دقيقة ولمحة منها. وكلها مشاهد يرق لها القلب، من الكوخ، والجدول القريب، والعشب، وشجرة الصفصاف، والشمس الغاربة، وحتى المشهد الأخير «لحظة وفاة والده». والمسار الثاني يرويه الراوي العليم، يتناول فيه التاريخ الطبيعي لثعابين البحر في مراحله المختلفة، بدءاً من موطنه الأصلي، مروراً بالأماكن التي يستوطن فيها، وصولاً إلى عودته، بعد عشرات السنين، للتكاثر والموت. ويتمحور هذا التاريخ الغريب حول أسئلة ثلاث هي: كيف يتوالد؟ أين يتوالد؟ ولماذا يختفي؟ وللإجابة عن هذه الأسئلة، يقوم المؤلف بعرض آراء مؤرخي التاريخ الطبيعي، ومواكبة بحوث علماء الأحياء، فكيف تتوالد ثعابين البحر عرض المؤلف وجهة نظر أرسطو في كتابة «تاريخ الحيوان»، التي تتلخص إلى ان ثعابين البحر لا جنس لها ولا تتناسل، بل تولد من الطين، كما يعرض وجهة النظر التي ترفض نظرية النشوء التلقائي للثعبان. ويأتي العثور على ثعبان بحر ناضج جنسياً، قبالة ساحل فينيسيا في صقلية، ليعزز هذه الوجهة، ويشكل إجابة عن سؤال التوالد المطروح منذ بداية العلم الطبيعي. أما السؤال الثاني المتعلق بمكان التوالد، فعرض المؤلف جهود عالم الأحياء الدنماركي يوهانس شميدت، الذي بذل جهوداً كبيرة، طيلة ثلاثة عقود، للإجابة عنه، فيشرف، بين عامي 1911 و1914م، على مهمة بحث عن اليرقات الصغيرة الشفافة، شاركت فيها ثلاثون سفينة شحن كبيرة. ليتمكن من حل لغز المكان في عامي 1920 و1921 بالتقاط أكثر من ستة آلاف يرقة في الجزء الغربي من المحيط الأطلسي. أما السؤال الثالث المتعلق بأسباب اختفائها، فيعيد المؤلف ذلك إلى الأنشطة البشرية، والأمراض والفيروسات، والتغير المناخي، والصيد. كما لم تخلو عملية البحث عن ثعبان ذكر ناضج أو أنثى ناضجة من قصص تبعث على الضحك وربما ستمر قرون أخرى قبل أن يُزال الستار عن اللغز المستعصي عن الحل الذي يسميه علماء الحيوان ب(سؤال ثعبان البحر). لقد بذل العلماء جهوداً واسعة للوصول إلى حقائق تمزّقت بين أيديهم في لحظات كثيرة، ففي منتصف القرن الثامن عشر، طُلب من الصيادين الألمان إحضار ما يشير إلى ميلاد الثعابين البحرية، وخُصصت مكافأة، وتولّت هيئة البريد نقل ما يتم إرساله عبرها، وفي نهاية المطاف كاد البريد أن يفلس بسبب كثرة الرسائل سعياً للمكافأة. ومن خلال هذه الجهود التي سردها المؤلف في كتاب يهتم بكائن واحد، نجد أن علوم الحياة التي نهمشها ونجعلها مدعاة للسخرية، لم تصل إلينا ترفاً، لقد أفنى آلاف الناس حياتهم لقول حقيقة واحدة.