في كل مرة نشارف بها على فقدان الأمل بسينما راقية تُقدّم التكنيك الاحترافي عالي المستوى، مع النص المُحكم البناء، والإخراج المفعم بالتفاصيل، والتمثيل الذي يتجاوز أعلى المعايير نعود للاطلاع على بارقة جديدة تظهر كل بضعة أعوام، وها نحن اليوم نشاهدها في فيلم الجريمة للفنان شريف عرفة والذي بدأ عرضه في الدور السينمائية السعودية وبقية دور الوطن العربي؛ فبالإضافة إلى كونه ينتمي للفئة الأكثر طلباً من الناحية الجماهيرية؛ وهي فئة الأفلام النفسية والتشويقية في آنٍ معاً نجده يزرع في دواخل المشاهدين متعة كبيرة رغم تجاوز زمنه للساعتين، وهي مدة طويلة نسبياً في الأفلام الروائية، إذ جاءت هاتين الساعتين في غاية الغنى من كافة النواحي المرتبطة بالإخراج والمونتاج والنص والتمثيل والتصوير والموسيقى والديكور وحتى المكياج. وبعيداً عن حرق الأحداث فلقد أدّى الفنان المصري أحمد عز واحداً من أجمل أدواره على الإطلاق (عادل الناضوري) بمسؤولية عالية رغم الشخصية المُركّبة وتعقيداتها وتعدد مراحلها العمرية وصراعاتها الذهنية والنفسية معاً، فيما اختارت المرشحة بجدارة لجوائز الإيمي الفنانة منة شلبي تجسيد شخصية (نادية) الجديدة على ألبومها بذكاءٍ كامل، ورغم صغر حجم الدور نسبياً إلا أنه كان مرضياً لممثلة لا تبحث عن الاستعراض أو التباهي بالمساحات، أما ماجد الكدواني الحصان الرابح في أي سباق، والذي أدّى دور (العقيد أمجد) فلقد أضاف من ذاته على النص بالشكل الذي كبّر به شريحة المعجبين به وبأدائه الجدّي تارةً والفُكاهي تارة أخرى بما يخدم سيرورة الحكاية. وواحد من أكثر الأمور الملفتة في الفيلم هو زمان ومكان القصة؛ الممثلان في سبعينيات القرن الماضي في مدينة القصير البحرية مما أضفى جواً حميمياً وغامضاً في وقتٍ واحد على الصورة المعروضة، واعتمد على تقنية (الفلاش باك)، أو الرجوع إلى الوراء في سرد القصة المروية على لسان عادل في الزمن الراهن، دون حشو زائد لا داعي له أو مشاهد طويلة لا مغزى فيها بما يخدم مقولة العمل النهائية، والموجودة في نفس العنوان (الجريمة)، ولا يُقصد في الجريمة هنا المعنى الحرفي الدموي كما يتبادر للذهن على الفور، بل جميع الجرائم المعنوية كذلك الأمر من خيانة وغدر وكذب وتملق ولهث وراء السلطة والأموال والتربية غير الحسنة، علاوةً على التأثيرات النفسية لعقد الطفولة ودور الأم في حياة الابن وتأثير ذلك على كافة مراحله العمرية، للدرجة التي يصبح متلمساً لها في جميع نساء الأرض وخائفاً بغير شعور من تكرار ما حصل بين والديه في حياته ذاتها. وعلى صعيد الموسيقى -التي جاءت بتوقيع التونسي أمين بو حافة- فناهيك عن محافظتها على عنصري الجذب والتشويق من جانب فلقد جاءت منسجمة مع المرحلة الزمنية التي تستعرض الأحداث لنشعر وكأن جميع العوامل الفنية تغني في (ريتم) واحد، أما الديكورات وتصميمات الملابس فلم تغفل أهمية علم الألوان في التطابق مع الشخصيات ومواصفاتها، ولم تناقض الواقع الحقيقي آنذاك، ومن ناحية النص كان من الملفت استعانة شريف عرفة بأمين جمال ومحمد محرز التي أتت كإضافة مؤثرة أكسبت (الجريمة) نكهة مختلفة على مستوى الحوار إذا ما قارنّاه بفيلميه الأخيرين: (الإنس والنمس) و(الممر). وتفاوتت الأدوار الثانية من ناحية الإبداع حيث لم يُقدّم الفنانان سيد رجب ومحمد الشرنوبي أي إضافة على أدائهما المعهود التألق في السابق، فيما تألق كلّ من رياض الخولي وميرنا نور الدين في المشاهد القليلة التي ظهرا بها، وكي تكتمل اللوحة السينمائية رأينا النهاية مترافقة بشهقة مطلوبة لتحقيق الرضا العام للجمهور، ومحافِظة على القانون المعتمد للنجاح في الآونة الأخيرة، لنحصل في الختام على مُنتج فني جميل ولائق ويستحق الإشادة والتصفيق. ياسمين نبيل حناوي