رواية تحت شجرة السدر، للكاتبة هناء جابر، مزيج ذكريات لأحداث اجتماعية وأسرية، وأحوال فردية، بدون خيال مفسد، أو مصادفات عجيبة، هي الواقعية التي تضفي على الحكاية صبغة درامية تخرجها بمظهر الواقعية الحية. يقول أومبرتو إيكو: «الأدب هو الذي يبقي اللغة حية، فالأدب يصنع من الحكايات والشخصيات جسداً مشتركاً، ينفخ فيه كل كاتبٍ من روحه، ويترك على هذا الجسد بصمته الخاصة». تتابع وتسارع الأحداث يجعل السرد متوترا، وممتعاً، تطرزه الاقتباسات الفلسفية واللغوية. من الأشياء التي أجادتها الكاتبة في نظري، هذه الشخصيات المبنية بمهارة، وهذه الأصوات المتفاوتة التي استطاعت أن تخلقها الكاتبة في بيت ماريا وأهلها، وما يدور في فلكه، فكل شخصية في الرواية لها صوتها الخاص، ومكونها الخاص، وقد أبدعت الكاتبة في رسم تلك الشخوص بطريقة فنية رائعة. وغمرتها بالعاطفة الأسرية والحب من جهة، والقسوة واللا مبالاة من جهةٍ أخرى، والذي كانت الكاتبة في منتهى الصدق في وصفها، مما يدل على احترافية وذكاء في سردها، لتكون الحكاية أكثر واقعية، مع تنقلها السلس بين الماضي والحاضر؛ «الحياة دون حُب تكفّ عن أن تكون حياة. هذا ما أدركته مع زياد، حين اكتسبت به حياتي معناها. لم يتغيّر شيء فيها، فأبي ما زال يانج كالبحر ويثور، وأمي ما زالت تقاوم وتفرّغ ضغوطها بتكسير الأطباق، وعمار ما زال طريداً ومنبوذاً، ومريم ما زالت تمعن في البغض والعداء، أما أنا فصرتُ أتعايش مع كل هذا بصدر رحب، وكأني خضعت لعملية تطورية تزيد من فرص بقائي في هذه البيئة وتجاوبي مع تحدياتها»، لقد جسدت الكاتبة هناء جابر بلغتها الشاعرية والأدبية مقولة متخصصين الاجتماع (السعادة أن يكون عملك هوايتك، وزوجتك حبيبتك). وبأن البيت والعمل هما الهواء الذي يتنفس فيه الإنسان رجلاً كان أو امرأة. فإن كان سعيداً فيهما وبهما فإنه يعيش في الهواء الطلق ويتنفس أنساماً عذبة طاهرة تملأ حناياه وخلاياه بالصحة والراحة والمرح والسرور. والعكس صحيح، وان كان الإنسان شقياً في بيته وعمله، غير موفق لا في زواجه ولا في عمله فإنه يعيش في جو كاتم خانق للأنفاس قابض للروح طارد للسعادة ومجلباتها. ودار رحى الكاتبة على دور الوالدين في البيت والعلاقة بينهما التي تمثل روح البيت وقلبه فإما ان تكون روحاً طاهرة رافعة راقية، بها يستوطن ويسود الحب والتفاهم والاحترام والإحساس بجمال الحياة وينشأ الأطفال في جو من المودة والمحبة والحنان والاحساس بالرضا والأمان. «لا شعور تحتاجه النفس البشرية كالأمان، هو الأساس لكل شيء، هل يمكن للإنسان أن يعيش هانئاً مستقراً بعد أن يفقد الأمان داخل أسرته، بيئة عمله، وطنه، علاقاته الشخصية، إن نمط حياة الفرد وسلوكه واتخاذه القرارات وقدرته على الصمود وعدم الانهيار في المواقف الصعبة والنكسات، تتأثر بوعي أو دون وعي بمستوى إحساسه بالأمان». جاء هذا السرد على لسان الابنة ماريا ودارت معظم الأحداث حولها، تأثرت وأثرت بما يجري في بيت العائلة ذي العلاقات المتوترة والملتبسة. كذلك سلطت الضوء على أحد أكثر الاضطرابات النفسية انتشاراً وهو الاكتئاب الناتج عن ذلك الخلل في الممارسات التربوية الخاطئة؛ «من هو عمار؟ إنسان مهزوز وجد نفسه مغروساً في بيئة غير مستقرة، يشعر بالمهانة وعدم تقدير الذات، عاجز عن إدارة حياته، عن اتخاذ أي قرار، عن تبني موقف، عاجز حتى عن الدفاع عن نفسه». رواية تجذبك بواقعيتها وحكاياتها، ربما تبدو الرواية للقارئ من الوهلة الأولى، ليست أكثر من قصة لأسرة مختلة، لاسيما أنها حملت اسم «تحت شجرة السدر»، ولكنه ما إن تدخل إلى عالم الرواية حتى تتفاجأ بأنك وقعت في شراك حكاية طويلة ومتشعبة، كتلك الشجرة وأغصانها، وحركات ظلالها. خالد المخضب