الإدارة هي علم مستقل بذاته يدرس في الجامعات والكليات في جميع بلدان العالم، وهو علم يتطور ويتجدد مع مرور الزمن مثله مثل العلوم الأخرى، كالطب والهندسة وعلوم التكنولوجيا والتقنية، وكما أن الإدارة والقيادة علم فكذلك هي موهبة وبعض الناس مفطور عليها، والأسماء كثيرة كتبت عنهم في هذه الصفحة عن قياديين كانوا بالفطرة أهل إدارة وقيادة، واليوم نذكر من هذه الأسماء القيادي حمد بن عبدالعزيز العيسى -رحمه الله- الذي وثقت فيه القيادة العليا وعينته أميرًا على ينبع في مجتمع يختلف عن مجتمعه النجدي، فمدينة ينبع البحر هي على ساحل البحر الأحمر، ومع الاختلاف إلاّ أن العيسى تكيَّف مع أهالي ينبع وكسب حبهم واحترامهم له، ومن أبرز نجاح القيادي أو الإداري احترام قائدهم، لكن ابن عيسى القائد ظفر بالحب والاحترام، وقل من يحوز هاتين الخصلتين من القياديين والموفق من وفقه الله عز وجل لحسن الإدارة والسداد في القول والعمل والرشاد فيهما. وُلد القيادي حمد بن عبدالعزيز العيسى في شقراء العام 1297ه، ونشأ في هذه البلدة المشهورة بالعلماء، وأسرته من الأسر العلمية في نجد، والأسماء ليست قليلة من أسرة العيسى ممن كانوا من أهل العلم والمعرفة في نجد، لذلك نقرأ في الكتب التي أُلفت عن علماء نجد أكثر من شخصية خرجت من هذه الأسرة؛ ومنهم الشيخ العالم أحمد بن إبراهيم بن عيسى أول شارح لنونية ابن القيم، والشيخ المؤرخ -مؤرخ نجد- الإخباري الأديب الشهير إبراهيم بن صالح بن عيسى -رحمهما الله-، وغيرهم من الأسماء من هذه الأسرة المنجبة للعلماء والأعيان، لهذا لم يكن غريبًا أن يطلب حمد العيسى العلم في بدايات حياته؛ لأن بيئته علمية، لذلك فقد تعلّم في شقراء على يد الشيخ القاضي إبراهيم بن عبداللطيف. أول وظيفة وتعيّن حمد العيسى -رحمه الله- وهو ما زال صغيراً في السن في شقراء في الخاصة الملكية عند الوجيه المشهور الشيخ سعد السبيعي، واستمر في هذه الوظيفة مدة من الزمن، وأكسبته الوظيفة خبرة وقيادة وإدارة. ويذكر المؤرخ عبدالكريم الخطيب أن حمد العيسى شارك مع الملك فيصل -رحمه الله- حينما كان نائبًا في الحجاز في معارك توحيد المملكة، وذهب العيسى مع الملك فيصل إلى الطائف، وتم اللقاء مع المؤسس الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- وعيّنه أميرًا على ينبع بتاريخ الأول من رجب العام 1353ه. إلى ينبع وتوجه حمد العيسى -رحمه الله- إلى ينبع ومعه أسرته تنفيذاً للأمر الملكي، وكان معه أولاده محمد وعبدالعزيز وعبدالله وأحمد، وكما قلت إن مجتمع أو البيئة الاجتماعية تغاير البيئة النجدية، ودرّس العيسى أولاده بالمدرسة الأميرية بينبع، وهذا أول اندماج بالمجتمع في ينبع، وهذا كذلك من حرصه على التعليم، وسوف نعرف ما المنجزات التي أنجزها هذا القيادي الحكيم في ينبع مدركًا لأهمية التعليم في نهضة أي بلد، ولن تقوم نهضة أو حضارة إلاّ بالتعليم، وبالتعليم تنهض الأمم. وليس بالأمر السهل أن تكسب محبة الناس، قد يحترمونك لمكانتك الرسمية، لكن الحب اختياري من النفس البشرية، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، لذلك أحب أهالي ينبع القيادي حمد العيسى وأجلوه، أمّا المحبة فمن الله، وأمّا الاحترام والتبجيل فهذه صفات هي لا شك من منح الله لبعض عباده. حزم وقوة والحكمة ورجاحة العقل صفتان من مقومات القيادة، بل من نجاح القيادي والإداري، وهما قد توفرتا في أمير ينبع حمد العيسى -رحمه الله- مع ما اتصف به من أخلاق رفيعة ورحمة بالضعفاء، وحزم وقوة على مخالفي أنظمة المدينة، هذا النسيج الاجتماعي في ينبع سواء كانوا من بادية وحاضرة، عرف العيسى مكانة كل شخص، وخصوصاً من أعيان المدينة أو من شيوخ القبائل، وأعطى كل منهم حقه من الاحترام والتقدير حتى جعله كبار السن أخًا لهم والشباب أبًا لهم، كانوا يستشيرونه في كل ما يواجههم من أمور الحياة، والمستشار مؤتمن، فكان يطرح رأيه ومشورته فيما يراه هو الخير. تأنٍ وتثبتٌ ومن صفات القيادي حمد العيسى -رحمه الله- التي اتصف بها وظهرت جلية عليه؛ التأني والتثبت في معالجة المشكلات والقضايا، فكان لا يسمع من طرف واحد في القضية، بل يسمع من الكل، وبعد دراسة مستفيضة وعميقة يتخذ قراره النهائي والأخير، وهذه كذلك من صفات وشمائل القيادي والإداري الناجح والماهر فيما أوكل إليه من مهام وقضايا، فالتأني والتثبت عواقبه حميدة. استقصاء الأوضاع وكان حمد العيسى -رحمه الله- يدير إمارة ينبع بمتابعة أعمال الدوائر الحكومية أولاً بأول، وهذا من الحزم واستقصاء الأوضاع، فكان يتابع إدارة الشرطة ويحثهم حثًا شديدًا على ضبط الأمن في الأحياء، ويتابع سير العمل في بلدية ينبع مشددًا عليهم على مراقبة الأسواق من حيث عدم رفع الأسعار، وفي مجال انتخاب المجلس الإداري والبلدي يتابع بأن تكون هذه الانتخابات في جو هادئ وفي وقتها المرسوم، وبما أن ينبع على الساحل فكان فيها إدارة خفر السواحل، وهذه الإدارة مهمة وحساسة لذلك كان العيسى يبدي أشد الاهتمام لهذا المرفق، حيث يحث المسؤولين على مراقبة الشواطئ ومحاربة كل مهرب. تصرف حكيم وفي سنة من السنوات لم تهطل الأمطار في موسمها المعتاد، وكانت البادية تعتمد على الأمطار لأجل مواشيهم، فبعث القيادي حمد العيسى إلى وزير المالية -آنذاك عبدالله السليمان- يوضح الأحوال، فبعث وزير المالية بسبع سيارات محملة بكسوة الرجال والنساء والأطفال، ثم وصلت هذه السيارات إلى ينبع فأمر العيسى بتوزيعها في القرى لتوزع على الفقراء والمحتاجين، وفي أثناء الحرب العالمية الثانية أصابت الناس حاجة شديدة فسارع العيسى بتوزيع الخبز مجانًا على أهالي ينبع. 27 عاماً وأمضى القيادي الحازم والحكيم حمد العيسى سبعًا وعشرين عاماً في إمارة ينبع، أنجز فيها عدداً من المشروعات، ففي العام 1362ه حينما أراد مدير مدرسة ينبع -عبدالرحمن صباغ- أن يرسل أول بعثة من مدرسة ينبع إلى مدرسة تحضير البعثات بمكةالمكرمة، كان هذا الأمر الحيوي نابعا من مشورته ودعمه المعنوي لهذه البعثة. وفي العام 1365ه طلب منه بعض أهالي ينبع أن يرسل أيتام ينبع إلى دار الأيتام بمكة، فكان العيسى إيجابياً، فرحب بهذا الموضوع الخيري البالغ الأهمية، وأرسل خطاباً إلى مدير الأمن العام بمكة يرجو منه انضمام أيتام ينبع إلى أيتام مكة، وتمت الموافقة، وأُرسلوا فورًا إلى مكة، فكانت هذه الحسنة التي هي كفالة الأيتام قد سعى فيها العيسى، وأتت هذه الفعلة الطيبة ثمارها، وتعلّم هؤلاء الأيتام وأصبحوا فيما بعد يخدمون وطنهم. جلب الماء ومن أعمال حمد العيسى -رحمه الله- أنه أوصل مياه الشرب من ينبع النخل إلى ينبع البحر، وكان بسببه أن سفلت الطريق بين المدينةالمنورةوينبع ومنها إلى جدة، كذلك كانت في ينبع مدرسة واحدة وهي المدرسة الأميرية، ولحرص العيسى على التعليم طلب من المسؤولين افتتاح مدارس تكفي حاجة ينبع، فافتتح خمس مدارس هناك، وكذلك تم فتح مدرسة للأيتام، وكانت العناية ببيوت الله -المساجد- من أولى اهتماماته، وتم تأسيس مسجدين كبيرين وتعمير المساجد القديمة في ينبع النخل والبحر. كانت قيادة إمارة ينبع مباركة حينما تسلمها هذا الرجل، فكانت قيادته وإدارته لينبع فألا حسنا ويمنا وبركة على أهالي ينبع، فكان إيجابياً معطاءً يبادر لكل مشروع فيه منفعة وخير وسعادة لأهالي ينبع. في الذاكرة ولم يكن حمد العيسى -رحمه الله- أبدًا سلبيًا روتينياً، لذلك لا تنساه ذاكرة أهالي ينبع وسيبقى منقوشًا في ذاكرتهم، لم يُعرف عنه إلاّ كل خُلق طيب، مفتاح لكل خير ومغلاق لكل شر، صاحب مروءة يبذل جاهه حتى ولو من دون سؤال الشفاعة، وهنا يروي المؤرخ عبدالكريم الخطيب تلك القصة عن مروءة حمد العيسى أن قائم مقام ينبع سابقاً قد تصدع منزله فأرسل برقية إلى الملك سعود -وكان وليًا للعهد حينها- يخبره بتصدع منزله فأمر الملك سعود بصرف مبلغ عشرين ألف ريال له، وتفاجأ قائم مقام ينبع بهذا المبلغ الضخم وشكر القيادي حمد العيسى على مروءته هذه. وفي الختام فإن حمد العيسى -رحمه الله- الذي أمضى سبعًا وعشرين عاماً في إمارة ينبع كانت ميمونة على الأهالي هناك، وانتهت مدة إمارته لينبع العام 1377ه، ليستقر في شقراء إلى أن توفاه الله عز وجل، وقد كتب عنه المؤرخ عبدالكريم الخطيب كتيبا ومنه استفدت عن سيرته. حمد العيسى وعلى يمينه ابنه عبدالرحمن وعلى يساره ابنه صالح وُلد العيسى في شقراء وتلقى تعليمه هناك ينبع البحر قديماً العيسى خلّد اسمه في ذاكرة ينبع