دفعت "التكنولوجيا" والوسائل العصرية وسيطرتها على حياتنا اليوم إلى تغيير مكانة بعض الوظائف، ومنها "عُمدة الحي"، التي بدأت تفقد هيبتها، فعلى الرغم من الجهود التي تبذل لتطوير مهن عمد الأحياء وربطها بالتقنية، إلاّ أن كثيراً من الأنظمة والبرامج سهّلت الاستغناء عنها، ما أفقد هذه المهنة التي عرفت عبر العصور محلياً وعالمياً فعاليتها وقوتها، لتدخل هيبتها مرحلة الإنعاش! وكانت وظيفة "عمدة الحي" قد حظت إلى وقت قريب باهتمام ومبادرات مديريات الشُّرط بالمناطق لتطوير وتجويد مخرجات مكاتبها؛ بحكم ارتباط وظيفة العمدة بوزارة الداخلية تنظيميًّا وماليًّا، إلاّ أنه أصبحت "التكنولوجيا" من المهددات لها، والتي يرى البعض دخولها غرفة الإنعاش، بسبب عدم حاجة الكثير لخدمات العمدة، وكذلك الخدمات التي تقدمها المنصات الحكومية، وما آل إليه الوضع من تغيرات ديموغرافية، وتمدد عمراني في المساكن والتباعد الاجتماعي، وتعدد الجنسيات واللغات والمهن في الحي الواحد، ما يمثل عبئاً كبيراً على طاقة وإمكانات عمدة الحي؛ والذي حجبت معه حقوق هيبة العمدة وصلاحياته؛ كذلك قلّت الخدمات التي تقدم لسكان الحي من العمدة، ما يدفع البعض للسؤال ماذا يحتاج عمد الأحياء اليوم لصمود هيبتهم ومكانتهم والحاجة إلى خدماتهم؟ لتحقيق مستهدفات رؤية المملكة وبرامج التحول الحكومي - الرقمي - والمؤسسي. دور أمني وتشير الدراسات التاريخية والتقارير الإعلامية عن مفهوم ووظيفة العمدة إلى أن العمدة لغة: هو عميد الأمر قوامه، والعميد: السيد المعتمد عليه في الأمور أو المعمود إليه، والجمع عمد، وعميد القوم وعمودهم، سيدهم، وفلان عمدة قومه إذا كانوا يعتمدونه فيما يحزبهم. وقيل العمدة: ما يعتمد عليه، ورئيس العسكر، ورئيس القرية أو المدينة، وعرف عديد من الدول نظام العمد، وفي المملكة كانت منطقة الحجاز سباقة إلى هذا النظام، إذ عرفته منذ بداية القرن ال14 الهجري، ثم عم النظام في مدن ومناطق أخرى، وصدر نظام للعمد عام 1346ه، وفي مصر ما زالت وظيفة العمدة موجودة بالاسم نفسه، وكذلك في اليمن، أمّا في لبنان وسورية فيعرف العمدة باسم المختار أو رئيس نفوس، والمنصب موجود في المغرب، ومهام عمل العمدة متشابهة في هذه الدول. ويشير مؤرخون وشهود عيان إلى أن المملكة عرفت نظام العمد منذ فترة طويلة، حيث لعب دوراً رئيساً في المجال الأمني والاجتماعي في مدن وقرى المملكة، ممثلاً لسلطة الدولة، وأعطيت للعمدة صلاحيات أمنية وغير أمنية واسعة كلها تدور على محور جوهري هو كون العمدة شخصاً من ساكني الحي المعين فيه، والعارف تماماً بأبنائه والمتواصل معهم اجتماعياً بحكم وجوده الدائم بينهم، ويعد الدور الأمني هو الدور الرئيس للعمدة حيث عد العمدة أحد المعاونين المهمين لأجهزة الأمن ممثلة في مراكز الشرطة المحلية، واعتمدت أقسام ومراكز ومخافر الشرطة على العمد في تلقي البلاغات في مناطق عملهم ومن ثم تصعيدها إلى أعلى، واعتبر العمدة من رجال الأمن يتبعون بصفة مباشرة لوزارة الداخلية ممثلة في مديرية الأمن العام. ثلاثة محاور وفي موضوع توثيق التاريخ التطوري لمهنة العمد في مدينة الرياض ذكر الدكتور عبد الله المنيف عن وثيقة نادرة عثر عليها، تؤرخ لبداية نظام العمد في مدينة الرياض عام 1367ه، في زمن الملك عبدالعزيز، فكتب عنها دراسة جاء فيها: تم تشكيل لجان في إمارة الرياض تقوم بجولة تحدد فيها حارات الرياض في ذلك الزمن، بغرض حصرها ومعرفتها، ثم تقديم ما تحتاج إليه من خدمات، وتلمس ما بها من نقص وجوانب تحتاج إلى تطوير، حيث عهد إلى رئيس بلدية الرياض في حينه بأن يقسم مدينة الرياض إلى مناطق والمناطق إلى حارات، ومن ثم ترشيح جملة من الأسماء يمكن أن يُوكَلَ إليهم العمل عمداً لتلك الحارات، لما لأهمية دور العمد في ذلك الوقت في عملية التطوير، مما وجده من نظام العمد المعروف في مكةالمكرمةوالمدينةالمنورةوجدة، حيث كان دورهم هناك لا يُجهَل. وكما ذكر الدكتور المنيف، كان صدور نظام العمد زمن الملك عبدالعزيز حيث تمت المصادقة عليه بحسب الأمر السامي في (19 /06 / 1346ه)، وتم نشره في جريدة أم القرى، وهو نظام قسم إلى ثلاثة محاور حسب الجريدة: الأول: عن وظائف العمد ومعاونيهم، الثاني: عن المجالس المحلية، الثالث: الحرس، وقد بلغت المواد التي تكون منها هذا النظام 21 مادة. أربع مناطق وقسمت الوثيقة مدينة الرياض إلى أربع مناطق، كل منطقة تشتمل على عدد من الحارات أو المحال، وروعي في هذا التقسيم الناحية الجهوية، وابتدأ داخل الرياض ثم خارجها والأطراف، ولم تشمل هذه الوثيقة الأحياء كلها بل أبرزت أشهرها وأكبرها، ببيان أهم الحارات ذات الكثافة السكانية المميزة، إذ يُلحظُ عدم إدراج مناطق ذات كثافة سكانية كبيرة، مثل: منفوحة، والمصانع، وفيحان، مع أهميتها بالنسبة لمدينة الرياض في ذلك الوقت، المنطقة الأولى: اشتملت على خمس حارات، وأمام كل حارة اسم العمدة، وهذه الحارات هي: الظهيرة، والقري، وشلّقّا، والحِلّة، والدُّحو، والأخيرتان لهما عمدة واحد لقربهما من بعض، المنطقة الثانية: تتكون من حلة آل سويلم، والمعيقلية والقناعي، والمقيبرة والمريقب، والجنينة وحلة ابن عياف وآل موسى والجهيمية، والبديع والحساني وحلة ابن مساعد، وحلة آل بحير وآل غدير وآل ريس، وحلة الغريب وحلة أبو زقوة وحلة ابن عويسان وما تعلق بها، وحلة جلمود والعويمرية وما تعلق بها مع سبالة الرقبية، وكذلك حلة الحزم وحلة الصلب، وحلة الرويضة وما يليها من قِبْلّه -أي: من غرب- وما تعلق بها من شرق، وسبالة الرويشدية والبريدي، وحلل أم سليمة (هكذا، والصحيح: أم سليم)، وحلة القحاطين العبيدية وما تعلق بها، إضافةً إلى حلة العسيلة والداخلة، وحلة الجويعي، وحلة العطايف وحلة آل عيسى، وحلة ابن هديان والوشام وما يتعلق بهم، وحلة العجلية وما يتعلق بها، وحلة آل وحيمد وآل طالب وآل ودعان على مسجد ابن داود، والحنبلي وآل صالح، وآل رصيص، وحلة سلطانة والغُرَيّبي وسمحة وابن جابر والغراوية. راتب شهري وتتكون المنطقة الثالثة من: حلة دخنة وحلة آل قباع وابن راجح والجملية، وحلة آل حماد والمليحة وحلة ابن عكيل، وحلة الوسيطا، وحلة جبرة، وحلة الحمودات، وآل مضحي، وحلة الظهرة والجفرة وما تعلق بها إلى حد الشرقية، وحلة الشرقية وما تعلق بها، وحلة ابن عويس وحلة ابن ريس الداخلية ومِصدّة والدُّوبيّة وما تعلق بها، وكذلك حلة آل فريان وآل عصفور والقديري وما تعلق بها، وحلة الوليف، المنطقة الرابعة: حلة العبيد وما تعلق بها، وحلة البديع وما يليها، وحلة ابن نصار وما تعلق بها، وحلة الصفرة وما تعلق بها، وحلل القصمان، وحلة الروقة، وحلة ابن نشاط وما يتعلق بها، إضافةً إلى حلل المرقب، وحلل الباطن، والعريجاء وما يتعلق بها، وحلة العمانات وما تعلق بها، وحلة آل أحمد، وحلة عتيقة، وحلة آل بكر والقِرِينة، وبهذا تنتهي هذه الوثيقة عند القرينة، ويلحظ أن أمام كل حلة أكثر من اسم مقترح لعمدتها، إلاّ أنه يلحظ أن بعض المواضع تكون أكثر من حلة، فيشار إليها بصيغة الجمع، ويوضع أمامها أكثر من عمدة، كما قد تكون بعض الحلل، مثل: حلل الباطن تحت أمر عمدة واحد، وهذا التقسيم كما ذكر د. المنيف لم يكن دقيقاً في إلحاق الحارة أو الحلة بالمناطق وترتيبها الجغرافي، وقد اكتفينا هنا بذكر أسماء الحلل أو الحارات من غير ذكر أسماء عمدها، لتيسر اطلاع القارئ عليها. وقد ألحَقِ بهذه الوثيقة ورقتان صغيرتان: إحداهما، بشأن اقتراح إجراء راتب شهري للعمد، لتُعِينهم على ما يقومون به، والورقة الثانية فيها اقتراح تعيين راتب شهري قدره أربعون ريالاً لكل عمدة، كما أُشِيرَ في آخر هذه الورقة إلى عدد العمد المستحقين للرواتب، الذين بلغ عددهم ستة وخمسين عمدة في ذلك الوقت. مساحة تقدير وعرف العمدة في مناطق ومحافظات المملكة إلى وقت قريب بأنه رجل أمن وإدارة واختصاصي اجتماعي، ونفسي، من طراز متفرد، وموظف رسمي غير تقليدي متفرد في ارتباطه اجتماعيًّا وثقافيًّا بأهالي الحي؛ كونه منهم، يحظى غالبًا بين الأهالي بمساحة تقدير رفيعة، فنحسبه أيضًا متفردًا بسمعته ونبله، واشتهر كثيراً في محافظة جدة، والطائف، ومنطقة مكةالمكرمة، وفي أغلب القرى والمحافظات لما يقوم به في تلك الفترة من مهام إنسانية واجتماعية، وتأدية الكثير من الواجبات والمهام الأمنية والإدارية الأخرى؛ إذ يتولى فض المنازعات، وتقريب وجهات النظر بين المتخاصمين في الحي، كذلك إصلاح ذات البين، ثم معالجة الخلافات الأسرية، فضلاً عن واجبه بتلمس احتياجات الأهالي الحيوية، ورفعها، ثم متابعتها لدى جهات الاختصاص، بجانب ما يُعهد إليه من قضايا أمنية ومعاملات إجرائية من قِبل مرجعه.