يقول امرؤ القيس: وليل كموج البحر أرخى سدولهُ ويقول أبو فراس: إذا الليلُ أضواني بسطتُ يدَ الهوى ويقول آخر: يا ليل الصبُ متى غدهُ..؟ كان الليل يطبق بظلامه على الكائنات فينتشر الهدوء مع انتشاره وحلوله، وحينما تشرق الشمس يصحو الكون وتدب الحياة فيستيقظ النشاط في الكائنات فكلٌ يسعى في طريقه وإلى وجهته. اليوم - غالباً - ضاع الليل وفقد هيمنته على كثيرٍ من الأحياء، ليس في البر وحده ولكن حتى في ظلمات البحر.. ولقد كان السمار والمهمومون يصابحون الليل ولهاً أو حزناً.. اليوم تجدك تسير في أي مكانٍ على هذه الأرض وعيناك لن تعدما ضوءاً من هنا أو هناك.. حتى السماء في الليل قد فقدت هيبتها الأزلية فأصبحت طرقاً للطائرات والأقمار الصناعية.. وبذا يمكن القول: إن الإنسان أزعج الطبيعة وأقلقها وأفسد انسجامها الطبيعي مع كائناتها وموجوداتها وكان ذلك في الماضي شذوذاً يدعو إلى قلق وانزعاج تلك المخلوقات كما قال الشاعر: ألم تر أن القطا متواتراتٍ *** و لو تُرك القطا ليلاً لناما فالإنسان قد أفسد متعة الهدوء والانسجام مع الطبيعة فانعكس ذلك على حياته ونفسيته، فازداد القلق وكثرت الأزمات النفسية بسبب هذه الفوضى الزمنية التي اختلط نهارها بليلها وليلها بنهارها فارتبكت حياة الإنسان وفسدت. * اليوم - في الغرب - صار كثيرٌ من الناس يفرون ويحاولون الهروب من قسوة المدينة وضجيجها ووجهها الحديدي الصارم، فكثرت النزل والمنتجعات البعيدة عن الضوضاء والصخب حيث ترتاح الأعصاب ويرتاح الذهن من الإزعاج والقلق.. ولكن ذلك ليس بالأمر السهل على كل الناس وبالذات البسطاء في عيشهم وغير القادرين مالياً على تكاليف تلك المنتجعات.. وبذا يمكن القول: إنه إذا كانت حياة اليوم أكثر سهولة ويسراً من الماضي فذلك في جانبٍ واحد وهو توفر الخدمات وسائر المتطلبات ولكن ذلك للأثرياء والقادرين أما أولئك البسطاء والعاديون من الناس فإنهم يصابحون لياليهم في حياة دائرية ليس لها طرفٌ وليس لها منافذ، فحياتهم مبهمة كسراب كونته حرارة الشمس في قيعانٍ ومفاوز ومتاهاتٍ برية ليس وراءها إلا الجفاف والصمت والعطش..