في أحد الأيام قلت مكررا بأن كثرة التصوير بلا فائدة على برامج التواصل أصبح أمرا مزعجا وظاهرة سلبية دخيلة على خصوصية مجتمعاتنا المحافظة وحتى العقلاء في كل المجتمعات يرفضونها فردت علي إحداهن قائلة: إن هناك بوادر وعي حيث إن الكثير ممن تعرفهن في مجتمعها قد تغير تعاملهن واستخدامهن لمثل هذه البرامج من خلال تقليلهن لتصوير حياتهم اليومية بشكل كبير وملحوظ، فقلت: هذا ما نتمناه جميعا أن نصل لهذا الوعي وأكثر لأننا في الحقيقة نستغرب هذا الإدمان العجيب واللهث خلف تصوير التفاصيل اليومية من البعض لكل تحركاتهم وسكناتهم وحتى موعد أكلهم وشربهم ونومهم ابتداء من (حياكم الله يامتابعيني) وانتهاء ب (تصبحون على خير يا متابعيني) حتى لو كان طرحه ساذجا بلا هدف؟! نتفق جميعا بأن الإنسان اجتماعي بطبعه ولسنا ضد المشاركات المقننة والمفيدة التي لاتنتهك الخصوصية أو على الأقل تلك التي تعود بنفع مادي لأصحابها أو للتسويق التجاري وعرض المنتجات الفكرية، ولكن نحن ضد كثرة الثرثرة وكشف المستور الذي لا يفيد المتلقي بشيء والتي تجعلنا نضع علامة استفهام كبيرة تدعونا للتوقف وتأمل مثل هذه الظاهرة التي تغلغلت بين كثير من المستخدمين وقيدت عقولهم وجعلتهم أسرى لتلك البرامج حيث أفقدتهم عدسات التصوير نعمة الاستمتاع باللحظة، وأفسدت عليهم الكثير من ساعات الفرح وأشغلتهم عمن حولهم، وكلنا يتذكر كيف كنا في السابق قبل ظهور هذه البرامج حيث اتساع مساحات اللحظات الممتعة المستغلة ومشاركتها بين الناس ولم يكن أحد يعلم عن تحركاتك وماذا فعلت واشتريت، فقط عندما تكون مسافرا سيعلم بسفرك أسرتك الصغيرة والمقربين منك كثيرا، والآن للأسف حتى على مستوى الأسر الصغيرة بسبب هذه الظاهرة تولدت البغضاء والشحناء وزادت الفجوة وتوترت العلاقات وظهرت المقارنات التي تجر خلفها الويلات، وهذا يغيظ ذاك بصمت وذاك يتابع تحركاته بحسرة وألم فتزيد نار الشك والغيرة في الاشتعال ويظل نقص الوعي وخفة العقل عاملين مشتركين بين التابع والمتبوع فيزيدون في شقائهم وهكذا مسلسل التفاهة يبقى مستمرا ؟! الحقيقة أننا حينما نتأمل هذا الواقع الجديد وهذه السلوكيات تحديدا - أعني ظاهرة كثرة التصوير - سنجد غالبا أن هناك دوافع ومسببات تجعل هذا النوع من المستخدمين ما يزالون في غفلتهم مغيبون تحركهم العاطفة ويزيدهم التشجيع جهلا وسذاجة، فحين ينخفض منسوب تقدير الذات لدى الشخص تضعف ثقته بنفسه فيصاب باضطرابات نفسية وصراعات داخلية تعزز لديه شعور الرغبة بكثرة الظهور - ولو بشكل سطحي ربما يدفعه للكذب - ليعوض عقدة النقص التي يشعر بها للفت الانتباه وطلب الاهتمام من الغير بطريقة غير مباشرة وسعادته حينها تكون مرتبطة بإظهار يومياته وأسراره للآخرين وردة أفعالهم تجاهه، وهذا الظهور كذلك ربما يؤدي لانعدام الشعور بالعيب وكل ما هو مستقبح فيقع في المحظور ويزيد في سخفه، والبعض حين يصور كل تحركاته واجتماعه بالآخرين كأنه يقول: (انظروا فأنا لست وحيدا.. إنني إنسان إجتماعي ومهم ويومي مليء بالفعاليات والأحداث..) فيوحي بذلك لنفسه وللآخرين بأنه شخص مهم والجميع يحبونه ويهتمون به وأن ليس لديه وقت للفراغ لكثرة علاقاته واختلاطه بالناس!. على كل حال يجب أن يعلم أولئك المهووسون بالتصوير (ونشر غسيلهم) بأننا جميعنا في كوكب واحد نأكل ونشرب ونذهب للمطاعم والمقاهي والأسواق ونتنزه ونسافر ونجتمع بمن نحب ولكن ليس كل شيء يتم تصويره وحتى لو تم تصوير الكثير من الذكريات الجميلة فهي للحفظ والذكرى وليس كل شيء قابلا للنشر أمام الملأ، والخصوصية مطلب ضروري جدا لنحافظ على علاقاتنا وصحتنا ويسعدني هنا عزيزي القارئ أن أحيلك لموضوع سابق كتبته يتعلق بهذا الجانب وفيه مزيد تفصيل تجده في محركات البحث بعنوان:(لصحتك النفسية الزم الكتمان). وعلى سبيل السعادة نلتقي. محمد العتيبي