هناك مقولة غربية معبرة، يتداولها ويتناقلها المهتمون بتصميم وبناء المدن، تقول ما نصه «أخطاء المخططين ترثها أجهزة الصحة»، عبارة نرى حقيقتها إلى حد كبير على أرض الواقع، فقيام المخططين بتركيز التنمية في عدد محدود من المدن من أجل خفض تكاليف هذه العملية، وجعلها بالتالي بؤر جذب للسكان ونزوحهم إليها، نشاهد أثره اليوم، في سرعة تفشي الأوبئة بين سكان أحيائها المكتظة بالمهاجرين، مقارنة بالمدن الأخرى الأقل في عدد وتركز السكان، ونلمس تبعاته كذلك في أعداد الوفيات والمصابين نتيجة الحوادث المرورية، ونلاحظه أيضاً في عجز الخدمات الصحية عن النمو بالقدر الذي يواكب التسارع في عدد السكان، وقس على ذلك من الآثار الأخرى. لا بل إننا حين نعكس العبارة ذاتها نجد أنها أيضاً ومن حيث المنطق تحمل ذات الدلالة، فعندما ينتشر ويتسع نطاق أمراض معينة بين السكان، فلا بد أن نجد أن للمخطط دوراً ما في نشأتها وتفشيها، لعل من أبرز الأمثلة على ذلك الأمراض الناتجة عن السمنة، التي نعلم أن من بين ما يعززها، هو الإفراط في استخدام السيارة بالتنقل، بديلاً عن المشي والسير على الاقدام. أعود لمحور الحديث عن الأوبئة وتحول البعض منها إلى جوائح والإشارة إلى أنها في الواقع تمثل مؤشراً على بدء دخول مدن العالم - ومنها مدننا بطبيعة الحال - مرحلة جديدة في حياة سكانها وما يلقيه ذلك من مسؤولية مهنية كبيرة على المخططين في أداء الدور المطلوب منهم في تهيئة المدن لمرحلة ما بعد مواجهة الوباء أو الجائحة ومعالجة الظروف التي كانت من أسباب تأزمها، واصطحب من شواهد التاريخ ما جرى على سبيل المثال لمدينة باريس في فرنسا وكيف أثر وباء الكوليرا الذي تفشى بها في فترة من تاريخها على إعادة تشكيل هذه المدينة بعد مرحلة تراجع الوباء وانحساره وذلك بإنشاء شبكة صرف صحي للمدينة وما جرى من بناء منظومة من الطرق الواسعة أعلى تلك الشبكة غيرت من ملامح العاصمة باريس عما كانت عليه، وغيرها من الشواهد في عواصم العالم الأخرى التي شهدت ظروف تغير وإعادة تشكيل في مرحلة ما بعد انتشار الأوبئة بها، وارتبطت تحديداً بتعزيز الجوانب الصحية في بيئة تلك المدن. وانظر في سياق ذلك إلى هيئات التطوير القائمة حالياً في عدد من مناطق المملكة وابحث متطلعاً عن الدور المتوقع لهذه الهيئات في إعداد وتهيئة مدننا - الكبرى منها على الأقل - لمرحلة ما بعد انتهاء الجائحة، ففرق التخطيط بها - حسب تصوري - هو ما سيتولى الدفة خلال الفترة المقبلة، وليست الأجهزة الصحية، وإن كانت ستشاركها بالتأكيد في أداء المهام.