تعين الأستاذ إبراهيم العنقري وزيراً للإعلام في أوساط عهد الملك فيصل رحمه الله. وكان معاليه قبل ذلك وكيلاً لوزارة الداخلية، وكان عسكرياً مهيباً.. بل مروعاً! ولكنه منذ وزارة الإعلام تأنس لمحبيه وجمهور وزارته، وأبان عن لطفه وحنوه، وهكذا من كانت أيسر معارفه الأدب لا بد أن يروضه الأدب.. في حياة أديبنا الكبير الأستاذ أبي عبدالرحمن ابن عقيل جوانب تستحق التأمل والدراسة.. وحين تحتفل به الأندية الأدبية فإنما ذلك لأنه يشكل بأدواته المعرفية مرجعاً لها لقدرته على التمييز وثقافته (الشمولية).. بين هذا وذاك كنت ذكرت ذلك ذات يوم أن قراءة كتاب تباريح للأستاذ ابن عقيل اعطتني قناعة بعفوية وتلقائية هذا الإنسان المبدع.. وفي هذا الكتاب عشت منلوجاً داخلياً لذلك الموقف بين معالي الأستاذ الأديب إبراهيم العنقري والأستاذ ابن عقيل والذي يرويه ابن عقيل كما يلي: ومن التباريح ما كان من أعباء الحرفة المرتبطة بالفن.. أي الرقابة الدينية على الأفلام والمسلسلات الفنية، وقد توقفت عن هذه الحرفة خلال قيام الأستاذ إبراهيم العنقري بوزارة الإعلام. وأول ما تعين إبراهيم وزيراً لوزارة البلدية والقروية زرته مسلماً عليه سأل باستغراب: ما الذي جاء بك إلى ها هنا؟ فقلت له بلهجة عامية: بل أنت وش اللي جابك هنا؟ الله يكفيني شر الثالثة! فتساءل عن الثنتين فذكرت له قصة بعدي عن النادي الأدبي الذي جعلته بسببه. وذكرت له بعدي عن مراقبة التلفاز الذي جعلته بسببه أيضاً. وكان مكتب معاليه حافلاً بالزوار والمهنئين، ولم يحاول حفظه الله تكذيبي أو تأييدي، بل التفت على الحاضرين مبتسماً وقال: إن أبا عبدالرحمن يظلمني! ثم التفت إلي وضمن لي ألا تأتيني الثالثة وبشرني بكل خير. وما رأيت منه والله بعدها إلا كرم الرعاية وجلال الأبوة.. بل نفضني من رف النسيان. وأما قصة التلفاز فقد عينني الأستاذ عبدالرحمن الشيباني ذكره الله بالخير مراقباً على ما سيبث قبل بثه من المسلسلات والأفلام والمسرحيات والأغاني.. وكان ذلك أول ما نشأ التلفاز بالمملكة. وكنت أستلم الأشرطة في عهدتي لا يراها أحد حتى يتقرر مصيرها بالإذن ببثها، أو بترجيعها لمؤسستها، أو بمحورها، أو ببقائها ضمن المنوعات.. وكنت –لا أزكي نفسي على الله– يقظ الضمير لا أبيح للجماهير ما يقشعر منه جلدي إذا رأيته.. وكنت أتتبع الشريط بالحذف فأوصي بمحوها غمزة عين، أو قسم بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو كلام ذي عربدة فنية، أو صور على الماصة.. فإذا كثر المحو كثرة تذهب الغرض من الشريط في جملته أوصيت بمنعه. وظلت الحال هكذا، وظل الطرب والدبكة لا يبثان إلا في أيام الأعياد. وتطورت سياسة التلفاز في البث بعد ذلك، وعظمت مسؤوليتي في الرقابة إلى حد الوسوسة، وأرهقت نفسي بالسهر. ثم تعين الأستاذ إبراهيم العنقري وزيراً للإعلام في أوساط عهد الملك فيصل رحمه الله. وكان معاليه قبل ذلك وكيلاً لوزارة الداخلية، وكان عسكرياً مهيباً.. بل مروعاً! ولكنه منذ وزارة الإعلام تأنس لمحبيه وجمهور وزارته، وأبان عن لطفه وحنوه، وهكذا من كانت أيسر معارفه الأدب لا بد أن يروضه الأدب. وكان للمراقب دريهمات على قدر الساعة وهي المقدار الزمني للمادة المراقبة، وربما أخذت الساعة معي سويعات ما بين مشاهدة وتأمل وتقديم وتأخير. وفي ذات يوم بعد صلاة الجمعة طرأ علي أن أقضي الظهر في المراقبة لعدة أمور: أولها: أن مكيفات الصحراوي –فضلاً عن الفريون– لم تعم جميع البيوت وإنما كانت هناك مريوحات. وكان مكتبي بالتلفاز مكيفاً تكييفاً ممتعاً بين جدران زجاجية، فقلت في نفسي استمتع بالتكييف عوضاً عن سموم المريوحة. وثانيها: أن أستمتع بالمادة التي أراقبها. وثالثها: أنني في بويت بالأجرة، وفي ضائقة مالية، فقلت في نفسي: أراقب عدداً من الأشرطة فأحصل على مكافأة مجزية حيث اكثف العمل في الشهر فأسدد القسط الحالي من الأجرة. وصادف الحظ أن وجدت شريطاً واحداً للمراقبة فوسعت الصدر على مشاهدته، وأعددت التقرير عنه على راحة، فرأيت أن أقضي بقية الوقت بمشاهدة أشرطة سبق لي أن راقبتها للمتعة وليس للتحصيل المالي، وصادف أن كان الشريط فيلم (الشموع السوداء) وكنت عند مقطع (عليادي عليادي) وكانت أذناي مشغولتين بالسماعتين لا اسمع طارقاً، وكنت في غواية شباب ومراهقة أضرب بأصبعي مجاوبة للنغم. ففوجئت بالعزيز إبراهيم العنقري أمامي منفعلاً ينفض يديه، وأنا أنظر حركاته وسحناته ولا أسمع ما يقول، وأذكر أنه كان بمشلح رهيف بين الأبيض والأصفر، ولم يخطر على ببالي قط أنه سيداوم يوم جمعة بعد الظهر، وما خطر ببالي أن يكون دوامه في التلفاز. وكان معه الاستاذ فوزان، وكان فوزان يربت على كتفي، فقفلت الفيديو وفسخت السماعتين، فطن في أذني من كلام معاليه قوله: ما صار هذا ولا في فرنسا. وتساءلت ما الخبر؟ فوجه معاليه الأستاذ فوزان بأن يريني الخبر عياناً لا سماعاً، ثم قال: لن أخرج من المكتب حتى تحققوا لي من أجازه؟ وكان الخبر أن ممثلة دخلت الكوافير فحملها رجل وهي شبه عارية وقبلها، وكان ذلك في مسلسل (اسألوا الاستاذ شحادة). وقد نزل جزء من هذا المشهد على حد دخول معاليه للتلفاز أو أنه حضر لأجل نزوله.. لا أحقق ذلك، فارتج التلفاز وصار كله حركة وضجيجاً، وفي أقل من الثواني قطع المشهد ونزلت مشاهد عن كرا وخط الحجاز وبعض المشاهد. وتساءل: من أجازه؟ فقيل: أبو عبدالرحمن! فقلت لمعاليه قبل ذهابه إلى مكتبه وقبل مطالعة المشهد: نعم، أنا طالعت هذا المسلسل، ولكن بعيد جداً أن أجيز مثل هذا، ولن أسمح ببث هذا الخلق المتدني تشاهده أختي وأخي فضلاً عن أبناء الآخرين. وكان غلاف كل شريط يلصق عليه وريقة فأكتب عليها إحدى عبارتين: 1- مجاز. 2- غير مجاز. فوجدت ورقة الشريط بنصف حجم الورقة ليس في جهتها اليمنى تلك الشريفات، ومكتوب عليها مجازة، وقبل الميم نقيطة كذرق الذباب علمت أنها ما بقي من كلمة (غير) التي نزعت بالمسطرة والموس. فأخبرت الأستاذ فوزان بهذه الظاهرة فاقتنع نصف اقتناع بأنني لم أجزه، ولكنه أصر على وجود التقرير، فتم البحث عنه بدقة فوجد بخط يدي أعددته منذ أزيد من سنة، ووجدت أنني لم أجزه، وأنني عللت رفضه بعلل منها منظر الممثلة المذكورة في الكوافير. فذهبت بالتقرير فرحاً إلى معاليه فأمر بالتحقيق مع من نزل المشهد، وأوصى الأستاذ فوزان بقوله: فرملوا بأبي عبدالرحمن، فتعين معي الدكتور عثمان الصوينع مراقباً. واتضح أن الشريط أنزله خطأ يظنه من شريط آخر يتضمن مقطوعات تونسية، ووجه الخطأ أن شريط المقطوعات في جراب أسألوا الأستاذ شحادة، وشريط شحادة في جراب المقطوعات. ولما وقع في الورطة خانته الشجاعة أو هيبة الأستاذ العنقري الرجل العسكري الذي جاء إلى الإعلام فلم يعترف بالخطأ، بل زور على غلاف الشريط لأكون الضحية.