لا توجد دولة في العالم لم تتأثر اقتصادياً من جائحة كورونا وما زال المشهد غامضاً حتى الآن، بالرغم من فتح الاقتصاد في أغلب الدول ومن غير المستبعد حدوث موجة ثانية، والعودة إلى الإجراءات الاحترازية مرة أخرى، فعدد الإصابات اليومية تضاعفت خلال شهر يوليو وقد عادت بعض الدول إلى تشديد إجراءاتها الاحترازية، ولذلك لا يجب أن يكون هنالك إفراط في التفاؤل بعودة النمو الاقتصادي بسرعة وأعتقد أن تبعات الجائحة على الاقتصاد سوف تستمر لعدة سنوات، المملكة كانت صارمة في الإجراءات الاحترازية منذ البداية مما جعلها من أقل دول العالم في عدد الوفيات وكانت أيضاً شفافة في طرح المعلومات والتحذير من المخاطر التي تكتنف الاقتصاد، وقامت بإجراءات دعم غير مسبوقة منذ بداية الأزمة للحفاظ على الاقتصاد وعدم تعريض المواطنين لفقد وظائفهم وأنفقت على الصحة أكثر من 50 مليار ريال للسيطرة على انتشار المرض، ولعلنا اليوم في أفضل حال بعد تراجع الإصابات وزيادة حالات التعافي ونزول مؤشر انتشار العدوى إلى أقل من 1 بالرغم من عودة الحياة إلى طبيعتها وفتح الاقتصاد، هذا الدعم المالي الكبير والنقص الحاد في الإيرادات تسبب في خلل كبير في المالية العامة أجبر الحكومة على اتخاذ قرارات قاسية من أجل تخفيف النفقات وزيادة الإيرادات، وقد حاولت الحكومة أن تكون الإجراءات متوازنة بحيث تحمي الاقتصاد ولا تؤثر بشكل كبير على الدخل أو الزيادة المفرطة في غلاء المعيشة، هذه الإجراءات التي تم اتخاذها لم أسمع أي انتقاد عليها من أي متخصص في الاقتصاد لإدراكهم بصعوبة الوضع الاقتصادي والتراجع الحاد في الإيرادات ولكن الانتقاد أتى من غير المتخصصين واقترحوا إجراءات يعتقدون بأنها أفضل من الإجراءات التي اتخذتها الحكومة، للأسف يعتقد أولئك بأن الاقتصاد أو إدارة مالية الدولة، أو إدارة الدين هي عبارة عن معلومات تؤخذ من هنا أو هناك تجعل الشخص يتبنى مقترحات ويُروج لها عبر مقالات، ومثل هذه الطروحات تخلق بلبلة في المجتمع وترفض أو تشكك في أي طرح مؤيد للإجراءات الحكومية حتى لو كان من الاقتصاديين بل ويصفونهم بالمتزلفين ثم يتم تقييم المسؤولين عن اقتصاد الدولة بأن قراراتهم خاطئة، ويتجاهلون أو يجهلون بأن إدارة المالية والاقتصاد هي حصيلة تراكمات من الخبرة الطويلة للعاملين في هذا المجال مدعمة بشهادات علمية متخصصة وعندما يُتخذ أي قرار تسبقه دراسات مستفيضة من الخبراء والمتخصصين وتُوضع كل السيناريوهات المحتملة وتقديمها لأصحاب القرار وهم من يقررون أي الإجراءات أقل ضرراً، كل هذا العمل والبيانات والأرقام التي يمتلكها أصحاب القرار ثم يأتي أحدهم ينسف كل هذا العمل بجرة قلم. لكل دولة طريقتها في معالجة أزماتها الاقتصادية ولا يمكن أن نطالب أي دولة بتبني تجارب الدول الأخرى فما يصلح لاقتصاد دولة لا يمكن تطبيقه في دولة أخرى، فمثلاً بعض الدول قامت بخفض الضرائب من أجل تحفيز اقتصادها فهل تصلح هذه التجربة لتطبيقها في المملكة؟ الحقيقة أن الدول التي خفضت الضرائب دول يعتمد اقتصادها على القطاع الخاص فلذلك هي تتنازل مؤقتاً عن بعض الدخل من الضرائب من أجل تحفيز القطاع الخاص أما في المملكة فالقصة تختلف لأن الدولة هي المحرك الرئيس للاقتصاد ولا زال القطاع الخاص يعتمد على الإنفاق الحكومي وتمكينه من القيام بدروه بدون مساعدة الحكومة لا يزال في مراحله الأولى ولذلك فأي نقص في إيرادات الدولة سوف ينعكس سلباً على الاقتصاد، والمتأثر في المقام الأول القطاع الخاص، فكانت خيارات معالجة الأزمة المالية في غاية الصعوبة، ومن الخيارات السحب من الاحتياطي العام ولكن يجب أن لا يزيد عن نسبة معينة لأن الإفراط في السحب من الاحتياطي قد يتسبب في تناقص احتياطيات الدولة وقد يعرض الريال للمضاربات والتأثير على سعر الصرف، الخيار الآخر هو سد كامل العجز من الاقتراض وخصوصاً أن المملكة من أقل دول العالم في مستويات الدين ولكن هذا الخيار له تبعات سلبية على الاقتصاد فارتفاع حجم الدين مع ضعف الإيرادات قد يتسبب في تخفيض التصنيف الائتماني للمملكة وعندها سوف يرتفع تسعير أدوات الدين الحكومية وينسحب ذلك أيضاً على الشركات في القطاع الخاص وقد تعاني الدولة من تبعاته اقتصادياً لسنوات طويلة، وهنالك خيار آخر هو تسييل بعض أصول صندوق الاستثمارات العامة الأقل جدوى ولكن هذا الخيار تم استبعاده لأنه ينسف أهم برامج رؤية المملكة 2030 والذي يسعى لزيادة أصول الصندوق لكي يكون مورداً أساسياً للإيرادات غير النفطية، أما قرار رفع نسبة ضريبة القيمة المضافة من 5 % إلى 15 % فبالرغم من قسوته وتأثيره على نمو القطاع الخاص إلا أنه يعتبر الخيار الأقل ضراراً على الاقتصاد الكلي، ويشكل مع الخيارات الأخرى مزيجاً من المعالجة تتمثل في زيادة الإيرادات غير النفطية والسحب من الاحتياطي وإصدار أدوات الدين محلياً وعالمياً وبذلك تحافظ الدولة على مكتسباتها الاقتصادية والائتمانية، أما المستهلك بإمكانه التعايش مع هذه النسبة وقد تعوض الحكومة أصحاب الدخل المنخفض عن هذه الزيادة من خلال برامج الحماية الاجتماعية وعندما نقارن نسب الضرائب في المملكة مع دول مجموعة العشرين أو دول العالم الأخرى أو بعض الدول العربية التي تطبق ضريبة القيمة المضافة نجد أن النسبة الجديدة عند 15 % هي من أقل النسب.