نلتهم الكتب بلا شبع لمواجهة الوقفة الكونية وذلك ضمن الإيقاع الهادئ الذي فرضته الكورونا على العالم. فجاة يقتحم عالمي هؤلاء المنسيون، عمال تنظيف الشوارع وحراس العمائر وعمال السوبر ماركت، وذلك بصرف النظر عن العاملين بمجال الصحة من عمال التمريض وتنظيف المستشفيات، بالذات يستوقفني عمال تنظيف الشوارع، هؤلاء الذين لا يقلون بطولة عن الممرضين، العمال الذين يتعاملون مع فضلات البشر، والذين يخلصوننا من مصدر فادح للأوبئة ألا وهو فضلاتنا التي تتكاثر بلا هوادة. لنتخيل مدننا بالزبالة تتكدس في شوارعها، الروائح التي لا تطاق، أعتقد بأننا لو قمنا بحبس الإنسان مع فضلاته لعرف معنى تقليص الاستهلاك، هناك من خبراء حماية البيئة من يذهب للاعتقاد بأن ما يشتريه الإنسان هو أكثر خطورة من انتخابه لممثليه السياسيين، إذ قرار الاستهلاك يقوم بصياغة مستقبل البشر على سطح كوكب الأرض. وفي سياق بطولة عمال التنظيف اكتشفت بالصدفة هذا الكتاب بعنوان "مكنسة ووردة 2015" والذي قام بتأليفه الشاعر والفيلسوف السويسري "ميشيل سيمونيه Michel Simonet"، والذي يعد بمثابة التسجيل التوثيقي لتجربته في المهنة التي اختارها لنفسه بشجاعة، مهنة كنس الشوارع في مدينة "فريبورغ" واستحق عليها لقب الكناس بالوردة. الكتاب يقدم ذاته بغلاف برتقالي بلون الزي الرسمي لعمال تنظيف الشوارع في مدينة فريبورغ، غلاف بسيط بتخطيط تجريدي لعربة جمع الزبالة والوردة التي يجددها كلما زبلت تتوج تلك العربة، فلسفة حية تقدم باختزال عنفوان الحياة مع تحولها لهشيم، الازدواجية الظاهرة للحياة والموت اللذين هما في أصلهما وحدة، هي وحدة الوجود في الجسد، تجسده وغيابه. يتحرك "ميشيل سيمونيه" ببساطة بين شوارع مدينته فريبورغ بين مهرجاناتها وأسواقها يستقبله الناس بالاحضان ويطلبون توقيعه على كتابه، سيمون قد حصل على دبلوم تجاري في كوليج سان ميشيل ثم تعمق في علم اللاهوت والفلسفة، يحول فلسفته لحياة معاشة، صغائر الحياة تتحول لشعر على يديه، يرتقي بهذه المهنة التي ينظر لها بعض البشر بصفتها هامشية ويجعل منها هذا الفيلسوف مهنة سامية تمنح صاحبها الوقت للمس عصب الحياة في مدينته، يطلع من خلالها على حكمة عربة الزبالة، التي يفلسف من خلالها سبرته الذاتية وسبرة أهل المدينة وأحداثها، ولقد حقق كتابه انتشارًا واسعًا ويعد واحداً من عشرة كتب تستحوذ على اهتمام القراء ويحتفى به عام 2018 في أكاديمية جونكور. الجميل أن ميشيل. سيمونيه قد ألهم الكثيرين، ومنهم شاعرة في المدينة وكاتبة أغاني والتي قامت بتأليف أغنية قصيدة عنه وبنفس العنوان "مكنسة ووردة"، ويقوم ميشيل بغنائها، أغنية عميقة المغزى تكشف وجهاً آخر من وجوه هذا الرجل القصيدة، والذي يغني مع كورال مدينته كل يوم أحد. نراه في مهرجان المدينة يحتفي مع المحتفلين، والذين يقذفون بالأوراق الملونة وعلب الشراب في الشوراع، ينضم للمحتفلين بلا تحفظ، لا يحد فرحه علمه بأن الصباح سيطلع وأنه سيقوم بتنظيف كل تلك الشوارع، هناك تسامح وسكينة في هذا الرجل، يقول بأن مصدرها تلك الليلة حين كان في التاسعة عشرة من عمره، حين أوى لفراشه ولا يدري ما الذي تلقاه في تلك الليلة، "استيقظت صباحاً لأجد نفسي شخصاً آخر، تعلمت التعايش مع الكل واحترام الاختلاف، الاختلاف هي تجلياتنا في بحثنا عن الواحد". يقول: "الجميل في مهنة كنس الشوارع أنك ترى نتيجة عملك فوراً، تنظر خلفك لتجد الشارع نظيفًا، تعلم أن سيتسخ بعد قليل، وأن عليك أن تعيد الكرة مرة أخرى غداً لتنظيفه، لكن هكذا هي الحياة، الشمس تطلع وتعيد الطلوع غداً وبعد غد، هو الكون في دوران دائم وما نحن إلا ضمن هذا الدوران". بمثل هذه الرؤيا يجعلنا هذا الشاعر نتقبل مشاق أي عمل بتسامح ورضا بل وبالشكر.