كانت الحركة الشعوبية في العصر العباسي الأول تبنت وتولت تدوين ونقل التراث الهندي والفارسي واليوناني ووضعت منهجًا كاملًا وقصرت نقلها على حقول الفلسفة والآداب والعلوم والمنطق. ويعود أعضاء تلك الحركة إلى أصول فارسية وهندية ويونانية.. نقل التراث لا يختلف كثيرًا عن نقل التقنية وعندما نقف على تجربة نقل التراث تأتي اليابان في مقدمة التجارب التاريخية. فقد مرت اليابان تاريخيًا بعزلة اختيارية خلقها الواقع الجغرافي وذلك لوقوعها في أقصى شرق آسيا ما بين المحيط الهادي وبحر اليابان. وبرغم تأقلمها وتكيفها مع عزلتها الاختيارية الشاملة إلى أنها رأت في الانفتاح الممنهج والمتدرج على العالم ما يكسر عنها طوق العزلة. بدأت رحلة الانفتاح عام 1868م أثناء ولاية الإمبراطور ميجي الذي هيأ اليابان للانفتاح على العالم بالشكل الذي يتلاءم مع طبيعتها الجغرافية محاولًا أن يضيف إلى رصدها الحضاري ما لدى الحضارات الأخرى من العلم والمعرفة ومن هنا بدأت تتبلور فكرة نقل التراث الصيني والذي كان سبقه نقل نظم الكتابة الصينية في القرن الخامس قبل الميلاد. وفي مرحلة ما من التاريخ الياباني قررت اليابان إرسال الوفود العلمية إلى الصين لنقل ما أفرزته الحضارة الصينية من فلسفات وعقائد وطقوس وعادات وتقاليد. وفي مرحلة لاحقة نقلت اليابان التقنية الغربية وفعلت الثقافة الصينية والتقنية الغربية في العقل الياباني فتشكلت اليابان من مفردات التراث والتقنية والذي تحول فيما بعد إلى فكر ياباني موحد وهذا لا يعني أن اليابان ليس لديها تراث حضاري ولكنها كانت بحاجة إلى تجارب الحضارات الأخرى. وقد حدث خلال دورات الحضارات المختلفة أن تأخذ حضارة عن أخرى ثم يأتي دور تكون فيه الآخذة معطية واليوم اليابان تقدم تجربتها الفريدة للعالم. ولم يقتصر نقل التراث على اليابان ففي العصر العباسي الأول أثناء مرحلة التدوين نقل جزء من التراث الفارسي واليوناني والهندي إلى مركز الخلافة في بغداد. فإذا ما وقفنا على العلاقة الثقافية بين جزيرة العرب وشبه القارة الهندية وجدنا أن الحضارة الهندية كانت منفتحة على الحضارة العربية الإسلامية. لذلك لم تكن أرض الهند مجهولة بالنسبة للعرب بل كانت عبر تاريخ جوارها الطويل - الممتد على بحر العرب - تقيم مع جزيرة العرب أوثق الروابط الثقافية. وفي العصر العباسي الأول نقل جزء كبير من التراث الهندي باللغة السنسكريتية إلى المراكز العلمية في بغداد من منطق وآداب وعلوم وفلسفة ولقد عرف عن المفكرين الهنود عدم وضع أسمائهم على نتاجهم العلمي وقد يكتفون أحيانًا برموز أو أسماء مستعارة وقد نقلت تلك الآثار من دون أسماء مؤلفيها وهذا يضعنا أمام تساؤل عن مصير تلك المؤلفات. كانت الحركة الشعوبية في العصر العباسي الأول تبنت وتولت تدوين ونقل التراث الهندي والفارسي واليوناني ووضعت منهجًا كاملًا وقصرت نقلها على حقول الفلسفة والآداب والعلوم والمنطق. ويعود أعضاء تلك الحركة إلى أصول فارسية وهندية ويونانية وكانوا قد درسوا اللغات الفهلوية القديمة [الفارسية] واللغة السنسكريتية الكلاسيكية واللغة اليونانية وفي ظني أن هذا كان كافيًا لإعطاء الخطوط الرئيسية لهذه المدرسة الفكرية. كان عبدالله بن المقفع 721 - 756ه أحد أقطاب تلك المدرسة الذي تولى نقل التراث الفارسي والهندي واليوناني وإعادة إنتاجه وتعريبه وكان الوحيد من بين المفكرين الذي وجد الجرأة للإفصاح عن آرائه الفكرية والسياسية والتي كانت تحمل طابعًا شعوبيًا في محاولة لسرد التاريخ العربي الإسلامي سردًا يستهوي الوجدان الشعوبي. ولد ابن المقفع في فيروز آباد من أسرة فارسية ونشأ في جو مشبع بالزرادوشتية دخل الإسلام ولكنه جعل نصب عينيه هدفًا أساسيًا سعى إلى تحقيقه وهو بناء فكر شعوبي خارج الإطار العربي معتبرًا أن الفكر العربي توقف عند نهاية العصر الجاهلي. من هذا المدخل دخلت الحركة الشعوبية العصر العباسي وأصبحت الحركة مدرسة فكرية تأسست على النقولات من التراث الهندي والفارسي واليوناني. وعبدالله بن المقفع مؤلف ومترجم ومفكر درس اللغات القديمة كاللغة الفهلوية واللغة السنسكريتية واللغة اليونانية واللغة العربية ومن أظهر مؤلفاته كتاب كليلة ودمنة ورسالة الصحابة والأدب الكبير والأدب الصغير والدرة الثمينة والجوهر المكنونة. وترجم أجزاء من منطق أرسطو وبالتحديد كتاب المقولات والعبارة مما يقتضي التوسع في دراسة الحركة الشعوبية التي نشأت في عصر التدوين وهيمنت على الثقافة العربية الإسلامية.