كان يملك كاريزما قيادية مريحة، وإيماناً بقدرات مرؤوسيه بالإضافة إلى الثقة التي كان يمحضها الجميع إيماناً منه بأنّ العمل جماعي، وأن النجاح والتقدّم لا يكونان إلا بتعاضد الجميع. فلسفة عملية مريحة خلقت حالة من التواد والانسجام وعززت التواصل بين الزملاء.. لم نكن نتهيّب الموت بشكل مبالغ فيه؛ لكنا كُنّا نترقّب وقْع خطواته، فالموت -وبرغم قناعتنا- بأنّه حق لا نملك لحضوره دفْعاً ولا تأجيلاً، فهو زائر غير مرغوب فيه، ويزيدنا تهيّباً منه؛ سطوة شهواته في اقتناص فرائسه بلا هوادة. يأتي لينسف قصر أحلامنا ببقاء أحبابنا وأصدقائنا حولنا فترة أطول. يترصّدنا في غفلةٍ منّا ليُحكِم قبضته وينشب أظفار قسوته على من نُحبّ، ولا يعنيه إن كنّا نملك من الجسارة وبسالة التجلّد ما يجعلنا نتماسك حال انطفاء أرواحهم أم لا؟ هكذا هو الموت حاسم لا يتردّد ودقيق في مواعيده المضروبة مع ضحاياه؛ فلا يتأخّر عن توقيته المرصود في ذمّة الغيب؛ وينجز مهمّته في اختطاف أحبتنا من بيننا؛ لنصارع بعدها ويلات وآلام الفراق والرحيل الموجع. مساء الجمعة المنصرم كان حزيناً ومباغتاً، وضعنا في مواجهة مع ما كُنّا نخشاه ونتحاشى لقاءه. أبو يزيد فارق الحياة. هكذا نعى الناعي وبتنا في حيرة وحزن بدّدهما إيماننا بالقضاء والقدر؛ صحونا على حقيقة نعيها تماماً لكنّا نكابر في التعاطي معها؛ نحاول عبر هذا التجاهل والمكابرة أن نعيش حالة أمل متجدّد نتقوّى به في التعايش مع الانتظار ولحظات الترقّب. رحل الزميل والصديق فهد العبدالكريم دون أن نتمكّن من وداعه؛ دون أن نعتذر منه عن تقصيرنا في الزيارة لظروف جائحة كورونا، وقبلها الحالة الصحية التي عاشها الراحل، والمراحل العلاجية التي اقتضت أن يكون بمنأى عن أي اختلاط قد يؤثّر على سير علاجه، وهو ما جعل حُدْب أسرته وخشيتهم وإشفاقهم عليه أن يفرضوا سياجاً من الاهتمام المضاعف والرعاية والمنع لضمان سير العلاج كما يُفترض. جاء الموت ليكشفنا أمام أنفسنا، ليؤكّد عجزنا، وخذلان لغتنا وحروفنا في التعبير والوصف، ظهرت كلماتنا كأضيَق ما يكون، فقيرة الدلالة عاجزة وعييّة عن تجسيد مشاعر الثّكل ولوعة الفقد واتّقاد جمرة ألم الغياب وفجيعة الرحيل؛ وأظنّها حالة تعتري كلَّ مكلوم نهَبَ الموتُ عزيزاً لديه..؟! حالة من التأبين الصادق والمعبِّر عن قيمة الراحل انتشرت في وسائل التواصل بشكل يدعو للتأمّل فعلاً؟ كيف حاز على هذا الكم المهول من المشاعر والمحبّة الصادقة المبرّأة من الزيف والتعاطي المصلحي، هذا الفيض الغامر من الدعوات التي رافقت كلّ حرفٍ كتبه معلِّق ومؤبّن، واستذكار لمواقف إنسانية عظيمة كان الفقيد بطلها إن على مستوى أصدقائه أو زملائه في المجلة (مجلة اليمامة) التي انطلق منها وتبرعمت مواهبه وتباسقت حتى استوت على سوقها فكانت طريقه لترؤس تحريرها ومن ثم اعتلاء كرسي رئاسة تحرير صحيفة "الرياض"؛ أو على المستوى الإنساني بشكل عام لأناس لا تربطهم به صلة، تواصلوا معه لأسباب ودواع صحفية وأحياناً لأسباب إنسانية بحتة، إذ كان الراحل الكبير مسخّراً لقضاء حوائج من يستنجد به ويقصده في شأن حياتي، وقد وقفت على مواقف عديدة منها، وكنت أغبطه على هذه السماحة ورحابة القلب والشغف بالمساعدة وحصد الأجر. أما على المستوى الإداري فلا يخفى على كل من تعامل معه من الزملاء تلك الأريحية وجمالية التحاور والهدوء الذي يأسرك، وبراعته وقدرته في أن يُطامن مِن قلقك وحرصك على تفادي موقف ما تظن أنّه سيخلق ارتباكاً عملياً أو خلافه. كان يملك كاريزما قيادية مريحة، وإيماناً بقدرات مرؤوسيه بالإضافة إلى الثقة التي كان يمحضها الجميع إيماناً منه بأنّ العمل جماعي، وأن النجاح والتقدّم لا يكونان إلا بتعاضد الجميع. فلسفة عملية مريحة خلقت حالة من التواد والانسجام وعززت التواصل بين الزملاء سيما وأنّ قيادته للصحيفة تزامنت مع تحدّيات جسيمة تمر بها جميع المؤسسات والوسائل الإعلامية على اختلاف أقنيتها، لكنه كان يشيع جوّاً من الثقة والتفاؤل بين الجميع أثمر عبور الصحيفة من عنق التحدّي ولا زالت تسير بذات العزم والإصرار. الكتابة عن أبي يزيد تبدأ ولا تنتهي، وتعداد مناقبه ومزاياه وخصاله الإنسانية وقبلها المهنية طويل، وقد أفاض بعض الزملاء والأصدقاء في الكتابة عنه، وكلّ منهم لم يكتب ولم يذكر جميع مواقفه الجميلة ووفاءه مع زملائه خصوصاً القدامى الذين يعتبرهم أساتذة له يدين لهم بالفضل والمعروف، واستكتب البعض منهم وحرص على استمراريتهم دون إهمال مَن قبلهم أو من تم استقطابهم لاحقاً، يمحض الجميع صافي مودّته وعميق اهتمامه، وليس هذا فحسب، حتى من الكتاب أو القراء للصحيفة لا يهمل أي رسالة أو اتصال من أحدهم عادّاً إيّاهم أصدقاء حقيقيين ووقوداً للصحيفة لا يجب أن يقل الاهتمام بهم عمن سواهم. إذاً هو الموت يقلّم شجر الذاكرة غصناً فغصناً، -كما كتب ذات رثاء سعيد البرغوثي- يقلّم شجرة الذاكرة غصناً فغصناً، ليحتطبها في النهاية، ويرميها في موقد النسيان. رحم الله أبا يزيد وأسكنه فسيح جنانه وربط على قلوب أسرته المكلومة ويأجرها في مصابها الجلل، وكذا أصدقاؤه ومحبّيه ممّن بذر في قلوبهم محبّته فأينعت وفاءً وحُبّاً لا ينتهيان.