إذا كان الأدب أو اللغة قد ضمرا عن حقول المعرفة وانحصرا في ميادين الشعر والقصة والرواية ليس لعجزهما ولكن لطبيعة الممارسة إلى أن يعودا إلى موقعهما كلغة للتفكير.. فقد أكدت الدراسات الحديثة أن اللغة العربية حافظت على تراكيبها وكلماتها ومفرداتها التي لم تتغير على مدى التاريخ.. هنالك خطأ منهجي يقع فيه بعض الأدباء وهو أنه عندما تبدأ كاتبًا أدبيًا فإن عليك أن تلتزم بالمقاييس والحدود التقليدية التي يسير عليها الأدب، وأن تقطع صلتك بالعلوم والمعارف الأخرى، وهذا خطأ شائع يقع فيه بعض الأدباء.. فالأديب الحقيقي يستطيع أن يكتب في السياسة والاقتصاد والتاريخ والعقيدة والفلسفة والاجتماع. فمثلًا شكسبير وهو أديب إنجليزي كان هو المجسد الحقيقي لروح عصر النهضة، وكان تأثيره واضحًا على الحياة الاجتماعية الإنجليزية، وكان هو وأدباء أوروبا أمثال د. جورج بيركلي ودنيس ديدرو وبلزاك وجون لوك أخرجوا أوروبا كلها من عالم القرون الوسطى إلى عصر النهضة.. وهذا ينطبق على شخصيات أدبية عالمية كالدكتور طه حسين ود. أندريه مالرو ود. وليد بوسنجور، فالذي يجمع بين هؤلاء أنهم أدباء وأصحاب مذاهب فكرية.. لقد سعوا بوضع جميع فروع المعرفة في خدمة الإنسانية. لقد وضعت الفلسفة التحليلية الحديثة اللغة الأدبية في مصاف الفكر، وإذا كان الأدب أو اللغة قد ضمرا عن حقول المعرفة وانحصرا في ميادين الشعر والقصة والرواية ليس لعجزهما ولكن لطبيعة الممارسة إلى أن يعودا إلى موقعهما كلغة للتفكير.. فقد أكدت الدراسات الحديثة أن اللغة العربية حافظت على تراكيبها وكلماتها ومفرداتها التي لم تتغير على مدى التاريخ، ولذلك فاللغة ومشتقاتها هي التي تحدد كيف نفكر وكيف نتكلم. وقد اعتبر د. محمد عابد الجابري أن المفكر الألماني هردر 1744 - 1803م أول من وثق العلاقة ما بين اللغة والفكر، بل اعتبر الرائد الأول لهذه النظرية والتي تقوم على أن اللغة ليست مجرد وعاء أو أداة للفكر بل هي القالب الذي يتشكل فيه الفكر بل هي الفكر نفسه. وقد أكدت الدراسات اللغوية والإيثنولوجية هذه الحقيقية، فالباحث اللغوي والأثنولوجي الأميركي إدوارد سابير ينظر إلى أن الفكر واللغة متلازمان، وقد أكد علماء النفس على ثنائية الفكر واللغة، فالإنسان يفكر أولًا ثم يعبر عن أفكاره.. فالعلاقة ما بين اللغة والفكر علاقة اتصال وتكامل، وفي هذا يؤكد الفيلسوف الفرنسي لافال أن اللغة ليست ثوب الفكرة فحسب ولكن جسمها الحقيقي.. ويقول الفيلسوف الألماني: إننا نفكر داخل الكلمات ما يعني أن اللغة تحدد قدرتنا على الكلام وفي نفس الوقت تحدد قدرتنا على التفكير.. ولكن إذا كانت الفلسفة معجزة اليونان فإن اللغة العربية معجزة العرب. ويعبر الباحثون اللسانيون الغربيون عن دهشتهم للكيفية التي نضجت واكتملت بها معالم اللغة العربية ومفرداتها، ونمت نموًا عظيمًا، واكتسبت ملامحها من حيث بنيتها النحوية والصوتية. فالعالم الذي يتحدث اللغة العربية كلغة أساسية اليوم يشمل رقعة جغرافية واسعة جدًا تمتد من الركن الجنوبي الغربي لآسيا شمالًا وغربًا إلى واديي الفرات ودجلة وإلى الشام الكبير ثم يلتهم الجزء الأكبر من النصف الشمالي لإفريقيا ويتوغل في وسطها إلى قريب من خط الاستواء والعالم الذي تمثل اللغة العربية له لغة ثانية أو لغة اتصال أو لغة مستقبل أو لغة ثقافة خاصة يمتد إلى ما وراء وجنوبي الاتحاد السوفيتي وإلى آسيا الصغرى وإلى القرن الإفريقي في الصومال وإريتريا وإلى أعماق إفريقيا وشمالي يوغندا وإلى غربها في نيجيريا والسنغال ومالي وغينيا، وهذا الانتشار الجغرافي الشاسع يجعل من اللغة العربية نفسها أداة ثقافية فريدة في تميزها بولاء ثقافي لا يضاهيه ربما إلا انتشار اللغة الإنجليزية عقب اكتشاف العالم الجديد. ثم إن عوامل الميراث الثقافي التاريخية إذا أدخلنا في معادلة اللغة الإنسان والأرض عامل الوجدان الثقافي تجعل من اللغة لا مجرد وعاء - اللغة ليست وعاء للثقافة في واقع الأمر - بل علاقة ديناميكية في واقع تبادل ثقافي شديد التفاعل وكبير التنوع.