الرواية الرسمية والمتفق عليها هي أن وباء فيروس كورونا خرج من مدينة ووهان الصينية، ولكن السؤال الذي سيحدد مستقبل المشهد السياسي العالمي، والذي يدور في أذهان الجميع: هل تصدير هذا الوباء للعالم كان بسبب تقصير وإهمال من قبل الحزب الحاكم في بكين أم عمل مدبر؟! في مرحلة ما، علمت الحكومة الصينية بالوباء واتخذت قراراً بإخفاء وجوده، على أمل أن يزول، لكن هذه الخطوة أعطت الوباء فرصة كبيرة للانتشار عبر حدود الصين، بحسب السياق الزمني والأحداث! في (بداية ديسمبر 2019) أظهرت نتائج اختبارات من مختبرات متعددة إلى أن هناك تفشياً لفيروس شديد العدوى، ومع ذلك فشلت تلك النتائج في إثارة استجابة حكومية، على الرغم من تغذيتها في نظام مكافحة الأمراض المعدية، الذي تم تصميمه لتنبيه كبار مسؤولي الصحة في الصين حول تفشي المرض، وبذلك ضيع مسؤولو الصحة فرصة مبكرة للسيطرة على الفيروس في المراحل الأولى من تفشي المرض..! في (27 ديسمبر 2019) كانت بداية اكتشاف خطورة هذا الفيروس حيث قامت شركة قوانغتشو (Guangzhou) بفحص عينات سوائل من رئة رجل يبلغ من العمر (65) عامًا كان يعمل في سوق المأكولات البحرية، حيث ظهرت العديد من الحالات الأولى، وأظهرت النتائج تشابهاً مثيراً للقلق لفايروس سارس التاجي القاتل!!. في ذلك الوقت تقريباً أرسل الأطباء المحليون ما لا يقل عن ثماني عينات أخرى إلى العديد من شركات الجينوميات الصينية، بما في ذلك عملاقة علم الجينوم (BGI)، حيث عملوا على تحديد السبب وراء عدد متزايد من حالات أمراض الجهاز التنفسي غير المبررة، أشارت جميع النتائج إلى فيروس خطير يشبه سارس.! ثم في (3 يناير) أمرت لجنة الصحة الوطنية الصينية (NHC) -أعلى هيئة صحية في البلاد- المؤسسات بعدم نشر أي معلومات تتعلق بالمرض غير المعروف، ووجهت المختبرات بنقل أي عينات كانت لديها إلى مؤسسات اختبار معينة أو تدميرها!! وفي هذا السياق ألمح عمدة ووهان في تصريح سابق له أن الحكومة المركزية منعته من الكشف عن أي تفاصيل حول الوباء..! في (9 يناير) أعلنت السلطات الصينية أخيراً أن فيروساً تاجياً جديداً كان وراء تفشي الالتهاب الرئوي الفيروسي في ووهان.! حتى في ذلك الوقت تم تقليل قابلية انتقال الفيروس بين البشر، مما جعل العالم غير مدرك للخطر الوشيك.. وأخيراً في (20 يناير) أكدت الدكتورة «زونغ نانشان» -المتخصصة في مجال صحة الجهاز التنفسي- في مقابلة تلفزيونية أن المرض ينتشر من شخص لآخر، وبعد ذلك بيومين تم إغلاق مدينة ووهان!!. بالرغم من كل ما ذكر، إلا أنه لا يمكن لأي أحد أن يثبت ما إذا كان الحزب الحاكم في الصين قد اتخذ قراراً متعمداً بحجب المعلومات من أجل تعريض الآخرين للخطر أم لا، لكن مع تزايد الأسئلة حول من يعرف ماذا ومتى، وما إذا كانت هذه الإجراءات ساعدت المرض على الانتشار، يجد العالم نفسه مجبراً على تقصي الحقائق والإجابة عن تلك التساؤلات، لاسيما مع الإخفاق الذريع لمنظمة الصحة العالمية في اكتشاف وتحذير العالم من الفيروس، أو حتى محاسبة المقصر، فبحسب لوائح وأنظمة الصحة العالمية فإن الدول ملزمة بالإبلاغ عن أي خطر قد يهدد العالم، وذلك في غضون (24) ساعة من اكتشافه، لكن الصين لم تبلغ منظمة الصحة العالمية بحسب السياق الزمني، ومنظمة الصحة العالمية في المقابل لم تتخذ أي خطوات جادة تجاه هذا الخطر، بل إن العالم اليوم على قناعة بأن منظمة الصحة العالمية تجاهلت باستمرار التقارير الموثوقة عن انتشار الفيروس في ووهان في أوائل ديسمبر 2019، أو حتى قبل ذلك، بما في ذلك تقارير من مجلة (لانسيت الطبية). كذلك فشلت منظمة الصحة العالمية في التحقيق المستقل في التقارير الموثوقة التي تتعارض بشكل مباشر مع البيانات الرسمية للحكومة الصينية، حتى تلك التي جاءت من مصادر داخل ووهان نفسها، لكن الأمر الذي وضع علامات استفهام كبيرة وبشكل يدعو للقلق من علاقة بكين بمنظمة الصحة العالمية هو تلك المعلومات التى وردت في أواخر شهر ديسمبر 2019 من السلطات التايوانية إلى منظمة الصحة العالمية تشير إلى انتقال الفيروس من البشر إلى البشر، ومع ذلك اختارت منظمة الصحة العالمية عدم مشاركة أي من هذه المعلومات المهمة مع بقية العالم! وليس ذلك فقط، بل إن المنظمة في تاريخ (14 يناير 2020) وعبر حسابها الرسمي في تويتر أكدت أن التحقيقات الأولية التي أجرتها السلطات الصينية لم تجد أي دليل واضح على انتقال الفيروس من إنسان إلى إنسان، وفي هذا السياق وبحسب ما نشرت صحيفة (ديلي ميل) البريطانية أن تقارير وكالة الاستخبارات الألمانية تشير إلى أن الصين طلبت من منظمة الصحة العالمية حجب المعلومات المتعلقة بانتقال العدوى من شخص لآخر، الأمر الذي أخر الاستجابة العالمية لمدة تتراوح بين أربعة وستة أسابيع. منظمة الصحة العالمية وبالرغم من كل الأدلة الدامغة على وجود وباء عالمي لا يقل خطره عن سارس إلا أن المنظمة استمرت بالتقليل من خطر الوباء حتى تاريخ (22 يناير)، وبعد عدة أيام وعلى إثر الضغط الدولي والأدلة الدامغة أُجبرت المنظمة على الاعتراف بخطورة الفيروس، وذلك في تاريخ (30 يناير). أما تصنيف فيروس كورونا كجائحة عالمية فلم تقرره المنظمة إلا في تاريخ (11 مارس 2020) بعد أن كان قد قتل أكثر من (4000) شخص، وأصاب أكثر من مئة ألف شخص في (114) دولة على الأقل حول العالم!!. هذا التعاطي المثير للجدل من قبل منظمة الصحة العالمية، وإخفاق بكين في احتواء الوباء، أثار غضب البيت الأبيض، وفي هذا السياق قال الرئيس الأميركي دونالد ترمب: «منظمة الصحة العالمية مجرد (دمية) في يد الصين»، وقد وجه ترمب خطاباً شديد اللهجة في تاريخ (18 / مايو 202) لمنظمة الصحة العالمية، فنّد فيه مواطن التقصير، وذكر عدداً من الشواهد الدالة على وجود نوع من التواطؤ بين بكين والمنظمة لحجب معلومات كانت أساسية ومهمة لاحتواء الوباء لا لشيء إلا لحماية الصين على الصعيد الاقتصادي والسياسي.!! هذا الخطاب والموقف الحاد وغير المسبوق من قبل القيادة الأميركية كشف عن مستقبل مظلم بين أعظم قوتين على هذا الكوكب، لذلك وجد العالم نفسه أمام أزمة تتطلب تحركاً من قبل المجتمع الدولي لاحتواء الأزمة ضمن منظومة دولية، بعيداً عند التحركات الفردية. أتى هذا التحرك في إطار مشروع قرار دفع به الاتحاد الأوروبي وأستراليا يدعو إلى مراجعة مستقلة لأصول فيروس كورونا وانتشاره، وتقييم محايد ومستقل وشامل للاستجابة الدولية للوباء، حظي بدعم (116) دولة في جمعية الصحة العالمية، وهو ما يكفي تقريبا لتمريره.. وفي هذا السياق قالت وزيرة الخارجية الأسترالية ماريز باين: «إنه من المشجع أن ترى العديد من الدول تدعم هذا المشروع»، وأضافت: «إن مشروع القرار يدعو إلى بعثات ميدانية علمية وتعاونية لتتبع مسار انتقال العدوى»، مشيرةً إلى أن ذلك «سيقلل من مخاطر الأحداث المماثلة في المستقبل». الولاياتالمتحدة في المقابل لم تشارك أبداً في رعاية المشروع، بل تصر على أن الأدلة على خروج الفيروس من مختبرات في ووهان دامغة، وأن تغافل منظمة الصحة العالمية عن هذا التقصير ليس له مبرر، لذلك القيادة الأميركية تقف خلف المطالبين بفتح تحقيق دولي، لكنها تعترض على البنود الواردة في المشروع الذي تبنته جمعية الصحة العالمية بقيادة أستراليا، وفي هذا الصدد يقول سفير الاتحاد الأوروبي لدى أستراليا مايكل بولش:» إنه كان هناك فراغ في القيادة، وإن أستراليا والاتحاد الأوروبي كانوا قادرين على ملئه!». لا شك أن المرحلة القادمة تحمل في طياتها الكثير من التحديات والمخاطر التى تتطلب مستوى عالياً من العمل الدبلوماسي، فالآثار التي ترتبت على هذا الوباء كارثية ومدمرة على معظم دول العالم، لذلك ردة الفعل ستكون غير مسبوقة ما لم تنجح مساعي المجتمع الدولي في احتواء الأزمة، وبرأيي أن خطوة أستراليا والاتحاد الأوروبي تعد بداية مجهود لاحتواء خطر وشيك بين الحزب الشيوعي في بكين وبراغماتية ترمب الفجة في واشنطن!.