بدايةً نقول: إن الجيوستراتيجية هو مصطلح معنيٌ بتطور علم الاستراتيجية الذي يُطبق في شتى مناحي الحياة (تخطيط سياسي، اقتصادي، عسكري، اجتماعي)؛ فالجيوستراتيجية تهتم بالطبيعة من ناحية استخدامها في تحليل المُشكلات الاقتصادية أو السياسية ذات الصفة الدولية، فتتناول المُشكلات والأزمات بالتحليل من ناحية العوامل العشرة للجيوستراتيجية: (الموقع، الحجم، الشكل، الاتصال بالبحر، الحدود، العلاقة بالمحيط، الطبوغرافيا، المناخ، الموارد، السكان)، فالجيوستراتيجية لها أهمية كبيرة وعظيمة في تهيئة كوادر قيادية استراتيجية مُتخصصة توظف الفكر والمفهوم الاستراتيجي، وتُجيد تحليل البيئة الاستراتيجية للوصول لصناعة قرار استراتيجي سليم مبنيٌ على أسس علمية معرفية تطبيقية، والذي نحن في أمسِّ الحاجة إليه في جميع مناحي الحياة؛ بعد ما أن أدت الأزمة الصحية «كورونا» إلى تصدع القطاعات الاقتصادية في العالم، ومن أهمها السياحة والفندقة، والنقل الجوي، والمُؤتمرات، والمعارض، وكذلك التصدير والخدمات اللوجستية؛ مما دعا الهيئات الدولية المُختصة (الأونكتاد) إلى تقدير حجم خسائر القطاعات الاقتصادية على النحو التالي: قطاع النقل الجوي: تتوقع المُنظمة الدولية للنقل الجوي خسارة القطاع بما يُقدر بنحو 113 مليار دولار لسنة 2020 نتيجة تطبيق قيود السفر بين الدول. قطاع السياحة: حسبما ورد عن مُنظمة السياحة العالمية، فإن خسائر القطاع من العائدات تتراوح بين 30، 50 مليار دولار نتيجة تراجع مُعدلات السياحة عالمياً. قطاع التصدير: حسبما ورد عن مُنظمة التجارة العالمية (الأونكتاد)، فإن صادرات الصناعات التحويلية قد تراجعت بما يُقدر قيمته 50 مليار دولار خلال شهر فبراير الماضي، وتُعد من بين أكثر الصناعات تضرراً صناعة السيارات، حيثُ تراجعت نسبة مبيعات السيارات عالمياً بنحو 12 % خلال العام الحالي، مُقابل 8 % خلال الأزمة المالية العالمية 2008. وفي الإطار ذاته: فقد أدت الأزمة الصحية الاقتصادية الحالية إلى تراجع الطلب العالمي على سوق النفط، مما أدى إلى زيادة العرض ووفرة الإنتاج، فكانت النتيجة ← الهبوط الحاد في أسعار النفط، مُسجلاً أكبر تراجع من العام 1991م. وفيما يتعلق بسوق الذهب فقد وصل إلى أعلى ارتفاع له منذ تسع سنوات نتيجة ارتفاع الطلب عليه، حيث سجل سعر الأوقية عيار 24/1685 دولاراً يوم الأحد 19/ 4/2020. وفيما يتعلق بسوق العملات فقد سجل الدولار أكبر تراجع منذ ثماني سنوات بسبب انخفاض أسعار النفط، وهبوط سندات الخزينة الأميركية لأدنى مستوياتها. أما عن التداعيات الجيوستراتيجية المُتوقعة، والتي ستُسَبب تغيرات صادمة: عودة الأنانية الذاتية: مما قد يُؤدي إلى ظهور مراكز قوى صناعية كبيرة تحل محل الصين (تركيز كل دولة على بناء مُقدراتها الذاتية، تلبية لحاجيات شعوبها)، دون الاعتماد على النظام العالمي. تدخل الدول وبقوة لمُضاعفة الإنفاق الاجتماعي للحد من التأثيرات السلبية للأزمة. الدعم وبقوة للقطاعات الحيوية (الصحة وصناعة الدواء، الطاقة المُتجددة، التكنولوجيا الحديثة)، وعدم الاعتماد على القطاع الخاص في تطوير هذه القطاعات.. ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد أنَّ من أهم القطاعات التي اتخذت من المحنة منحة، وواصلت صعودها جراء أزمة كورونا كوفيد 19 (صناعة الدواء، والمُعقمات، ومُضادات الفيروسات، وصناعة التطبيقات الإلكترونية)، كل هذا وبلا شك سيُعزز من دور الدولة مما سيجعل النظام الرأسمالي سيتلاشى إلى ما كان عليه من ذي قبل، وفي السياق ذاته فقد أعلنت مُنظمة الصحة العالمية ارتفاع الطلب على الكمامات والأقنعة الواقية بما يُقدر ب100 ضعف عالمياً مُقارنة بالطلب المُعتاد، كما أن مُنظمة الأمم المُتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) قد صرحت بأن عمليات البيع بالتوصيل قد ارتفعت ل 52 % مُقارنة بالعام الماضي. كما نرى أن الأزمة سُتؤدي إلى تأجيج المُنافسة السياسية العالمية بين بعض الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المُتحدة الأميركية والدول التي احتوت الأزمة في زمن قياسي (الصين، كوريا الجنوبية، روسيا، سنغافورة)، فبعدما أن كان الثقل الاقتصادي يتجه نحو الغرب (الولايات المُتحدة والاتحاد الأوروبي)، فستُقلب المعايير رأساً على عقب لصالح الثقل الشرقي، مما سيُؤدي إلى تلاشي التكتلات الدولية بعد ما أن أكدت الأزمة الحالية ضعف التضامن بين الدول الأعضاء في تلك التكتلات على احتواء الأزمة. فنحن مُقبِلون على عالم جديد يحمل اسم (عالم ما بعد كورونا)، فالهيمنة الأميركية الأوروبية من ذي قبل قد قسمت العالم إلى قسمين: أحدهما غنيٌ ثريٌ مليء، والآخر فقير مُدقع محتاج، هذه القسمة ستختلف تماماً، وستنقلب الأمور على غير المُراد، وستأتي الرياح بما لا تشتهي السفن! فماذا بعد ما أن خصصت الإدارة الأميركية تريليوني دولار، وكذلك الدول الصناعية الكُبرى ثلاثة تريليونات لمُجابهة كورونا؟ فإن تلك الدول تقوم الآن بطباعة الدولار واليورو بكميات كبيرة وعرضها في السوق دون غطاء إنتاجي وسلعي كافٍ، مما سيُؤدي إلى التضخم وارتفاع سريع وملحوظ في أسعار السلع الاستهلاكية التي يستوردها معظم دول العالم. يجب التأكيد على أن الدول التي ستنجح في إدارة الأزمة وتخطي عواقبها وتحويل المحنة إلى منحة، ستكون هي الأكثر استفادة، فأزمة كورونا ستُغير حتماً وجه العالم، فمن يريد استكمال المسيرة والنهوض قُدماً، فليس عليه إلَّا الاستعداد الأمثل والجدية في التعامل مع التوقعات السيئة للأزمة.. وعليه ندعو الجميع في بلادنا إلى: الزيادة في مُعدلات العمل عن بُعد (من المنازل)، مما قد يُسهم بشكل كبير في زيادة الإنتاج، والتحكم في الإنفاق بعد الخروج من الأزمة الحالية، كما ندعو أيضاً إلى العمل على تطوير ودعم التعليم عن بُعد، مما قد يُسهم بشكل كبير في معلوماتية ورقمنة منظومة التعليم والتعلم. * أستاذ الاقتصاد والقانون المالي المساعد