العزلة ليل طويل تموج في دكنته الزرقاء نجوم بلا مواقع وأقمار بلا مدارات، تحوم كسرب من الطيور المهاجرة حتى تصير جدياً ملتف القرنين، وتدور مرة أخرى لتستدير قوساً يطلق نبله في السماء ليصطاد الشهب، وتتوارى سمكاً ذهبياً يقفز من أبيات أبي العلاء المعري في وصف ليله الداخلي. إنما في العزلة فقط: يقع درهم من أعلى روحك الخالي إلى قاع خيالك المعدني، فتسمع رنته من بعيد وأنت ترعى حديقة قلبك الخلفية. في العزلة فقط: تنقح شريط الماضي من عيوب الذاكرة عندما يمر خالياً من غبش الفجر والسحب الموسمية التي تنشرها عادة رياح المشاغل اليومية، ففي العزلة تستطيع أن تخرج الذاكرة من قبو الحنين، وتصلح محركها الذي تعطل من قلة الاستخدام. العزلة كسرة خبز تقتسمها مع الأمل. ففي العزلة يتفتح الأمل بأغنياته الصغيرة وهو يرفرف كالفراشات في دمك. وربما فتحت مع الأمل حواراً فلسفياً حول ضيق العيش وفسحة الأمل في قول النابغة: وإنك كالليل الذي هو مدركي وإن خلت أن المنتأى عنك واسعُ ففي العزلة تتسع الرؤية برغم ضيق العبارة، وربما محت حوافر التاريخ الحدود الفاصلة بين الأمس واليوم حتى يمتد بك الزمن نهراً من الأحرف المتصلة لرواية ساخرة بلا عنوان. فلديك وقت كاف لتنجز أشياء كثيرة: كأن تخترع لغة جديدة للعمارة لا يتقنها أحد سواك ولا يحتاج إليها أحد رغم كل ما فيها من إبداع وفائدة، أو أن تحصي أعداءك الذين يختبئون خلف ستار من السذاجة والحب الأعمى فتبدأ في عقابهم واحداً واحداً، أو أن تداوي الجراح التي جمعتها بين جنبيك في حروب التنمية والدفاع عن المنهجية ولم تشف منها تماماً. ستبدأ في حب أشياء عادية لم تكن تلقي لها بالاً قبل يومك هذا: كرغوة القهوة الأعجمية التي توشك أن تفوح، حيث لم تكن تعدها بنفسك سابقاً، فلا تدري أنك ستفسدها بكثرة الغليان، خلافاً لقهوتك العربية المستطابة. ستجد نفسك منجذباً لرائحة الكتب القديمة خاصة، فما زالت لديك طبعة رديئة وناقصة من كتاب الأدب الصغير لابن المقفع، طبعت في حيدر أباد بالهند أوائل القرن الهجري الماضي، ولديك مخطوط مملوكي في وصف دمشق لمؤلف مجهول سرق على الأرجح من مكتبة لايدن في الحرب العالمية الأولى. ولكثرة ما استبد بك الحنين ستعود لمصحف جدك القديم الذي حفظت منه سورة الرحمن أول مرة منذ عشر سنين لتقرأ دعاء الختمة الذي كتبه جدك على ورقة صغيرة بارتعاشة خطه الجميل. العزلة تمرين على قسوة الفقد ومرارة الحرمان، لكنها سير في بستان نفسك في يوم غائم جزئياً. ستجد في العزلة مخبأ من مشكلات العصر الحديث التي تحاصرك كانكماش الاقتصادي العالمي وانخفاض أسعار النفط، والأوبئة العابرة للقارات. وفي غمرة انشغالك باللاشيء ستجد في جيب قميصك الرهيف مفتاح قلبك المفقود.