كيفية التعامل مع المرويات الشعبية المتجاوزة من أبرز القضايا التي تؤكّد حضورها في مُقدمات كتب التراث الشعبي، وقد عرضتُ في مقال سابق رأي الدكتور سعد الصويان، الذي انتقد فيه تساهل بعض جامعي التراث الشعبي في التصرف بالنصوص بالحذف والتغيير والتحوير، واكتفيتُ باستعراض موقف اثنين من الباحثين هما: إبراهيم الخالدي ومحمد الحمدان، اعترفا باضطرارهما إلى حذف بعض النصوص الهجائية، وشرحا أسباب الحذف، وأعود هنا مرة أخرى لعرض مواقف باحثين آخرين اختلف موقف كل منهم في التعامل مع النص الشعبي بحسب طبيعة التجاوز الذي يحمله، وبحسب ردة الفعل المتوقعة من المتلقين. فعلى سبيل المثال، يُصرّح الأستاذ عبدالرحمن السويداء في مُقدّمة الجزء الثالث من كتابه (فتافيت) بوجود اعتبارات عديدة، منها ما هو داخلي ومنها ما هو خارجي، منعته من إيراد كثير من الروايات الشعبية التي تلقّاها عن الرواة، فيقول: «تمتع كل من الجاحظ والثعالبي والمقريزي بحرية التعبير والانطلاق دون حرج، فكتبوا عن كل شيء جرى.. بينما تورعت وترفعت عن مجاراتهم بوازع الدين والأخلاق، ومراعاة للاعتبارات الاجتماعية والسياسية». ثم يعترف بأن «الرقيب» شاركه مسؤولية عمليات «الحذف والتهذيب» التي لولاها لكان حجم كتابه «أضعاف» ما هو عليه! ويمكن للناظر ملاحظة حرص الباحثين على إسقاط القصائد الهجائية براحة ضمير تامّة في مقابل التساهل في نقل نصوص أخرى متجاوزة، ففي مقدمة الجزء الأول من كتاب (قالت الصحراء) يؤكد المؤلف بدر الحمد على «حذف أي قصة أو قصيدة تثير النعرات أو تسيء إلى طرف ما». لكنه يُبدي شيئًا من التسامح في ُمستهل الجزء الثاني تجاه التجاوزات التي يمكننا وصفها بالتجاوزات «العقدية»، فقد وضع «تنبيهات» ذكر فيها أن القارئ قد يواجه في الكتاب قصائد يذكر فيها الشعراء عبارات التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو التوسل «الشركي» بغيره من الأولياء والصالحين، وبيّن أنه لن يقوم بحذفها؛ «لأنها موجودة في مصادر وكتب كثيرة»، وسيكتفي فقط بالإشارة والتنبيه لها! ونجد أن الباحث في الأدب الشعبي مُطالبٌ دائمًا بتقمّص دور الرقيب، أو مشاركته دوره في الحذف والتغيير والتهذيب، وعندما يلتزم بأمانة النقل فمن الطبيعي أن يتعرّض لعديد من المشكلات من أهونها التعرض للنقد، كما حدث للشيخ أبي عبدالرحمن بن عقيل الظاهري، فبعد نشر كتابه (ديوان الشعر العامي بلهجة أهل نجد)، كتب الأستاذ سليمان الحديثي ملاحظات ينتقد فيها الكتاب، من بينها ملاحظة يقول فيها: «أحيانًا يورد أبياتًا خليعة ماجنة، لا أدري كيف لا يخجل من إيرادها.. فقد أورد قصيدة بالغة الإسفاف والقذارة، تنبو عن سماعها وقراءتها الأذواق السليمة، وتأباها الأخلاق الحميدة». من السهل على الباحث الحديث عن «أمانة نقل التراث» على المستوى النظري، لكن الالتزام بذلك واقعيًا أمر بالغ الصعوبة ومحفوف بالمخاطر التي قد يكون هو ضحيتها، أو يكون ضحيتها كتابه الذي قد يتعرض للمنع والتغييب بسبب نص واحد أو عبارة صغيرة وردت فيه.