إننا أمام صياغة جادة لمفردات واقعنا التاريخي المتفرد، واستثمار هذه المفردات بشكل واعٍ وجدي لرفد اقتصادنا الوطني بالكثير من المحاور العميقة بما يعود في النهاية على مستوى حياتنا ومعيشتنا، وينهي حقبة الاعتماد الكامل على النفط كمورد رئيس.. لا أبالغ إن قلت: إن أي خطوة أو قرار تتخذه المملكة في عهدها الزاهر، بقدر ما يثير العالم، فإنه يعكس أننا أمام حالة سعودية جادة تمضي قدماً في سياساتها الرامية للتحديث الاجتماعي والنهضة الاقتصادية والسياسية متعددة الأهداف ومختلفة المحاور.. بمثل ما ترسمه رؤية 2030 الاستراتيجية للواقع العام لمملكة المستقبل بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وولي عهده الأمير محمد بن سلمان يحفظهما الله. إذ لم تمضِ ساعات على إعلان المملكة - قبل قرابة أسبوعين - إطلاق التأشيرة السياحية حتى كان الحساب الرسمي لموقع إصدار التأشيرة السعودية على "تويتر" يشهد التفاعل الأكبر باستفسارات للمهتمين والسياح من عدد من دول العالم، خاصة من الدول ال(49) المشمولة - مبدئياً - بإصدار الفيزا السياحية إلكترونياً، أو دول أخرى خارج القائمة، وكلهم يعبرون عن رغبتهم بزيارة المملكة والتعرف عليها بشكل موضوعي، المعالم السياحية في المملكة، والتنوع التضاريسي، والخدمات المتوافرة. وربما نستطيع أن نشيد كثيراً بمقطع فيديو الحملة الإعلانية التي أطلقها موقع التأشيرة السياحية للمملكة، خاصة أن أول عبارة فيه تؤكد أنه "ما زالت الأرض مليئة بالأسرار، وما زالت كنوزها الخفية تنتظر مكتشفيها".. وهو أمر يثير الانتباه والدهشة ويحث على اكتشاف مكامن الأسرار الطبيعية والأثرية في لقطة تشجيعية محفزة تستعرض تنوع الرصيد السعودي المتعدد والذي يطال شبه قارة جغرافياً، ويحتاج فقط لمن يستكشفه ببراعة، دون أن ننسى التنوع الاجتماعي بين المناطق، وهذا وحده لا يحتاج إلى جهد كثير لإبرازه والاعتناء به. وبقدر ما تسعى خطوة التأشيرة السياحية هذه، وفي هذا التوقيت المهم.. بجدية لوضع أحد ملامح رؤية 2030 الاستراتيجية موضع التنفيذ العملي، خاصة أنها تستهدف استقطاب 30 مليون سائح بحلول 2030. وهو عدد سيجعل عائدات السياحة تقفز إلى 10 في المئة (مقارنة ب3 في المئة حالياً) من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي.. بقدر ما يعكس ذلك الرغبة الحقيقية لدى المملكة في تنويع مصادر الدخل، وكذلك إبراز الصورة الحقيقية للمملكة أمام الرأي العام على مستوى العالم. بالتزامن مع توقعات لافتة لمتخصصين اقتصاديين وخبراء محليين وأجانب، ملخصها أن صناعة السياحة السعودية الصاعدة ستجعل المملكة ضمن قائمة أكثر 5 وجهات للاستقطاب السياحي حول العالم. ماذا يعني ذلك؟ هذا يعني ببساطة أن مملكة الحزم والعزم، تشد أزرها وتنفض عن نفسها غبار الصورة النمطية التقليدية بشجاعة، وتضع شعبها ومجتمعها على سلم الأولويات الرامية لعملية التشارك البشري والإنساني، وتفتح ذراعيها للعالم بكل رحابة صدر، مصدرة تراثها وإمكاناتها ومكامن قوتها التراثية والطبيعية لتكون ملء البصر، ولأول مرة تعتمد مصادر أخرى عملاقة غير صناعة النفط الشهيرة، ليس استعداداً لمرحلة ما بعد النفط فقط، لكن استثماراً لمخزونها الاستراتيجي المتعدد والمتنوع. وهذا يعني أيضاً أننا أمام صياغة جادة لمفردات واقعنا التاريخي المتفرد، واستثمار هذه المفردات بشكل واعٍ وجدي لرفد اقتصادنا الوطني بالكثير من المحاور العميقة بما يعود في النهاية على مستوى حياتنا ومعيشتنا، وينهي حقبة الاعتماد الكامل على النفط كمورد رئيس، بالتزامن مع إطلاق مكامن اقتصادية أخرى، وأيضاً يصوغ مناخاً متفائلاً وسط التقلبات الحادة والهائلة إقليمياً ودولياً.. وكل هذا في النهاية يرسخ عوامل الاستقرار المجتمعي، والثقة المعنوية تجسد الطموح بغدٍ أفضل. ما يشهده مجتمعنا من دفعات نهضوية متتالية تشمل كل المجالات الممكنة، يعززنا في أنفسنا أولاً، ويجعلنا على قدم المساواة مع غيرنا من الدول الإقليمية والعالمية، إن لم نتفوق عليها بحكم ما نمتلكه من رصيد ديني متمثلاً في الأماكن المقدسة، يجعلنا على حق عندما نحلم بالريادة ونعززها ونتفوق فيها.. لذا عندما نقول أهلاً بالعالم، فإننا ندرك ليس ما نقوله، ولكن ما نمتلكه أيضاً.