لا يتردّد كثير من الكتّاب في وصف أي باحث أو مترجم يقوم بالتصرّف في النص المنقول بوصف «الخائن»، ويطالبونه دائماً بالتزام الأمانة والدقّة في النقل، فمُهمّته أمانة ثقيلة إمّا أن يؤديها على أكمل وجه، وإمّا أن يبتعد عنها. ويعزو الدكتور سعد الصويان تساهل بعض جامعي الأدب الشعبية في التصرف في النصوص إلى نقص الخبرة العلمية، وهذا النقص يدفعهم إلى «التحوير والتعديل في نصوص الأدب الشعبي حين نشرها وذلك بإعادة نسجها وتنقيحها وتهذيبها وحذف ما قد تحتويه من فُحش وألفاظ نابية وتبديل لغتها من عامية إلى فصحى... وبذلك تفقد هذه النصوص قيمتها كمادة علمية يمكن الاستفادة منها في الدراسة والبحث. فمن الأمور الأساسية التي تجب مراعاتها دائماً عدم التصرف بنصوص الأدب الشفهي إلا في حالات الضرورة القصوى وفي حدود الأمانة العلمية». ولكن ما حالات الضرورة القصوى التي تُبيح للباحث التصرّف في النص، وتُبرئه من تُهمة «الخيانة» أو «نقص الخبرة»؟ أعتقد أن أشهر الحالات في تراثنا الشعبي تُقابل الباحث في النصوص القديمة التي تتضمّن هجاء أو إساءات صريحة للآخرين، وسبب شيوع هذه الحالة هو ارتباط تلك النصوص بمرحلة زمنية شهدت كثيراً من الصراعات التي أنتجت لنا نصوصاً يصعب على الباحث إهمالها أو التخلص منها من جهة، كما يصعب عليه نقلها كما هي من جهة ثانية. وبين هذه الجهة وتلك لا بُد أن يقع بين تهمة الخيانة وبين تهمة إثارة الأحقاد وتحريك الصراعات الراكدة. فعلى سبيل المثال يقول الأستاذ إبراهيم الخالدي في مقدمة تحقيقه لكتاب (تحفة المشتاق): «ولم أتجرأ على اقتطاع ما يذكره أو بتره أو حذف كلمة منه إلا في حالة واحدة عندما حذفت بيتين شعريين من حوادث سنة 1287ه لما فيها إثارة للحزازات القبلية، وسجلت ملاحظاتي في هامش التحقيق مقتنعاً بأن الكتاب وضع في مرحلة تختلف عن المرحلة التي نعيشها الآن، وبالتالي فإن من حق المؤلف علينا أن تبقى عباراته كما أرادها مع حفظ الكرامات والبعد عن إثارة النزعات». وكما نلحظ فالخالدي على قناعة تامة بأهمية نقل النص كما هو بصيغته الأصلية، لكن الضرورة ألجأته للحذف. ولا شك أنّه أسعد حظاً من باحثين آخرين تعاملوا مع نصوص اضطروا فيها لأكثر من حذف بيتين فقط، ومن هؤلاء الأستاذ محمد الحمدان الذي قال في ديوان الشويعر: «وبسبب هذه الحساسية لدى بعض الأخوة اضطررت لحذف أسماء من هجاهم حميدان من أشخاص أو بلدان، ما عدا عائلته مع علمي بأن هذا ينافي أمانة النقل». يُدرك الباحث الجاد أن تصرّفه في النص ينافي الأمانة العلمية، لكنه يضطر لبعض التصرّف حتى لا يتسبب في إثارة أي مشاكل، ومن بينها ما قد يتعرض له عمله من منع بسبب وجود بيت شعري أو عبارة يكون من الأنسب له وللقارئ حذفها مع التنبيه إلى مواضع الحذف. Your browser does not support the video tag.