إعارة كتابٍ -في نظر القارئ الذي يعشق الكتب- غلطة كبيرة من الأفضل تجنّب ارتكابها، فالكتاب الخارج من المكتبة مفقودٌ أو مُعرضٌ في كثير من الأحيان لشتى أنواع تعذيب الكتب، وإن قُدر له الرجوع إلى رفوف المكتبة بعد اغترابٍ فلا يأمن صاحبه أن يعود إليه بحالة سيئة، وقد تمزّقت صفحاته أو تشوّهت بالكتابة، و»الشخبطة»، وتكسير الأطراف؛ وقد نبّه ابن جماعة في كتابه (تذكرة السامع والمتكلم) إلى أنواعٍ أخرى من أنواع تعذيب الكتاب المستعار والإساءة له، مُطالباً بألا «يُجعل الكتاب خزانةً لكراريس أو غيرها، ولا مخدّة، ولا مِروحةً، ولا مكبساً، ولا مِسنداً، ولا مُتكأً، ولا مِقْتَلَةً للبقِّ وغيره»!. ومن الذين أدركوا خطورة إعارة الكتب والدواوين، بعد تجربة مريرة، الشاعر والراوي الكبير عبدالرحمن الربيعي (1309-1402ه)، وهو أحد أعلام رواية الشعر النبطي الذين كان لهم الفضل -بعد الله- في تدوين وحفظ جزء كبير من تراثنا الشعري، وتأتي شهرته -كما يذكر الباحث القدير عبدالعزيز القاضي- من مدوّناته الشهيرة وعلى رأسها كتابه المخطوط الذي كان ضنيناً به، وكان يسميه (المحَرْوَل) أي المشلول؛ وكان لا يسمح بخروجه من بيته خوفاً عليه من التلف والسرقة العلمية... كتب في مقدمة أحد أجزائه: فيا سائلي عن دفتري أن أُعيره وأكشف سرّي بعد طول اختبائه تسمّع هداك الله قولي وخُذ به فإنه قولٌ لم أقل بسوائه فوالله ما يظهر مُعاراً لواحدٍ فكُفَّ الهوى عن أخذه وعطائه» «المحرول» اسمٌ جميل اختاره الربيعي لمخطوطه، فهذا المخطوط ليس مجرد ديوان يضم قصائد شعبية قديمة، ولكنه كنز نفيس وجهد سنواتٍ طويلة من البحث والجمع والتدقيق، حتى أصبح كالمحبوب الذي لا يمكن أن يتخلّى عنه أو يفارقه أو يسمح لأي شخص بأخذه بعيداً عنه؛ وكان بإمكان الربيعي اختيار اسمٍ آخر ربما يكون أكثر جمالاً في نظر الآخرين، ولكنه آثر اختيار هذا الاسم الذي يصف حال هذا المخطوط «المشلول» عن الحركة، والعاجز عن الانتقال إلى أي مكان لارتباطه الوثيق بجامعه. ولم ينفرد الربيعي برفض إعارة مخطوطه للآخرين، ففي أكثر من حوار ساق الفلكي المعروف الدكتور صالح العجيري قصته مع أحد أساتذته في ميدان علم الفلك، وهو أستاذٌ فاضل يعترف العجيري بفضله الكبير عليه في تعلّم علم الفلك، لكنه يخبرنا بأن عيبه الوحيد هو أنه جمع عبر عشرات السنين كتباً نادرة ومخطوطات قيّمة في علم الفلك حبسها داخل مكتبته، ولم يكن هذا الأستاذ يسمح لأي زائرٍ بدخول هذه المكتبة أو استعارة شيء من محتوياتها، ولم يتمكّن تلميذه العجيري من الدخول إليها إلا بعد وفاته. لكن العجيري نفسه لا يرفض سياسة أستاذه في إعارة الكتب رفضاً تاماً، فهو يُصرِّح بعد ذكر قصته قائلاً: «لا تُعر كتاباً، فإن الكتاب المعار مفقود». أعتقد أن عاشق الكتب، الذي اكتوى بنيران فراق شيء من كتبه بالإعارة، لن ينزعج كثيراً من وصفه بالبخل، أو الأنانية وكتم العلم، أو غيرها من الأوصاف ما دام سينام قرير العين مُطمئناً على سلامة كنوزه المعرفية وقربها منه، فالحذر من نوعية المستعيرين التي تنتهك حقوق الكتاب وصاحبه هو الذي دفع عشاق الكتب الحقيقيين إلى التمسّك الحميمي بكتبهم، وهو الذي دفع المكتبات العامة إلى رفض إعارة الكتب النادرة والمخطوطات التي يُخاف عليها من الضياع أو التلف، كما أجبرها على وضع شروط تضمن حقها في عودة الكتاب المستعار سالماً بعد استفادة المستعير منه. عبدالرحمن الربيعي عبدالعزيز القاضي صالح العجيري بداح السبيعي Your browser does not support the video tag.