إن ما قبل الإحرام مرحلة لا تبيح لأحد التمرد على أخلاقيات القرآن، ولا تجيز العشوائية في معاملة الآخرين، لكنها مرحلة يجب أن تراجع بما يتخللها من المراحل.. ضبطت حياة المسلم عامة بضوابط الإنسانية التي جعلها الله في قلبه، فإنه ما من مسلم إلا وجعل الله له واعظًا في قلبه يأمره بالخير وينهاه عن السوء، ثم زادت تلك الضوابط ثباتًا واستقامةً بما وجه الله به المسلم بالآيات القرآنية، وما ينقل إليه من الأحاديث النبوية، ومع ذلك فحياة المسلمين العامة الفردية والجماعية يعروها ما كتب قدرًا على ابن آدم من حظوظ النفس وملهيات الدنيا، وأحيانًا من لمم وكبوات يترصد بها إبليس لعباد الله، وكثير من الناس يعلق توبته وإقلاعه عن أخطائه بحدث ما، وآخرون يرجئون إلى مرحلة من مراحل العمر نظرًا لشعورهم واغترارهم، وأيضًا هناك كثرة من الناس يهملون إصلاح أحوالهم مؤملين أن يصلوا إلى محطة الجد «الحج» فيبدؤون حياتهم الإيمانية الخالية من طاعة الهوى والنفس، ويعللون لذلك بقول المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: «من حج هذا البيت، فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه». وهو حديث عظيم الوقع في النفس، لا سيما وقد علقت المغفرة وحط الخطايا بعمل يشق على النفس جهدًا ومالًا ووقتًا. وحين نتحدث عن إصلاح الفرد نفسه وعزمه على العودة بنفس وروح جديدتين فلنا أيضًا أن نتحدث عن تجديد المجتمع حياته ومعاملاته، فالملايين من الحجيج التي تعود بهذه النفسية تتكرر كل سنة، وقد حرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على استغلال تلك الجموع، واضعًا آلية عمل لمن بعده من الخلفاء، ومخاطبًا الحجيج خاصة بأعظم ما يمكن طرحه من خطاب: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا. ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث...، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء...»! هذا التوجيه النبوي تجاوز الحياة الفردية إلى ما تصلح به الأمة جمعاء، من حفظ النفوس، وحرمة الأموال، وترك الجاهلية، واجتناب موبقة الربا، والحض على أداء حقوق المرأة، وكل ذلك خطاب للجموع بالعزم على العودة إلى بناء أوطان خالية من الظلم، بعيدة عن حياة الغابة التي يتسلط فيها القوي على الضعيف، ويأكل سكانها بعضهم بعضاً، فليس الأمر سيان قبل الإحرام وبعد الإحرام، فتلك الأقدام التي وفقت لزيارة بيت الله ليس لها العودة إلى حياتها الأولى، بل لا بد من تغيير عنوانه «حتى يغيروا ما بأنفسهم» بالمفهوم الوطني الذي يحافظ على حق الفرد والمجتمع. إن ما قبل الإحرام مرحلة لا تبيح لأحد التمرد على أخلاقيات القرآن، ولا تجيز العشوائية في معاملة الآخرين، لكنها مرحلة يجب أن تراجع بما يتخللها من المراحل، فموسم الحج ليس خاصًا بزيارة مكة وشعائرها، ولكنه تعدى ذلك لكل أهل الأرض بمشاركتهم بعض العبادات المخصصة لهذا اليوم المبارك، بل وحتى من لم يكن من المسلمين، يشرئبون لمشاهدة ومتابعة هذا الاجتماع العالمي الذي لا مثيل له في كل مناسبات الأرض، ثم يتأمل المتأملون ما الذي يتجدد للمسلمين بعد هذا الجمع؟ وبالنظر إلى ما قرره النبي صلى الله عليه وآله في هذا اليوم، وما لوّح به من مغفرة الذنوب ومحو الخطايا ينبغي للناظر أن يرى شيئًا يتغير في مجتمعات المسلمين بعد كل اجتماع من هذا النوع، ومن المهم ملاحظة أن هذا الاجتماع قد شمل كل بلدان العالم، فما من بلد إلا وترسل وفودها إلى الحج غير غاضة الطرف عما يتجدد في عقائد وأخلاقيات حجاجها. هذا والله من وراء القصد. Your browser does not support the video tag.