كتبنا كثيرًا وخطبنا وتكلمنا عن الخلط في مفاهيم التلقي، ولكن الحاجة تدعو إلى تكرار ذلك وتنويع الطرح، عسى ولعل لشاردٍ أن يعود، ولا سيما حين يتعدى الطرح إلى اتهام الشعوب وحكامها جملة وتفصيلا، بالعمالة وترك الدين.. والجاهلون لأهل العلم أعداءُ، شطر بيت يفسر الواقع الذي تعيشه كثير من المجتمعات العربية المسلمة، حيث حصرت «الدين» في آراء فقهية على نمط واحد، وعلى وتيرة واحدة من تصنيف المتدين وغير المتدين، فمهما بلغ العبد من التقوى المراتب السامية بينه وبين الله إلا أنه يظل»الفاسق، المنحرف، الضال، المنسلخ، الخبيث...و..و...و إلخ، ليس إلا لأنه خرج عن المعتاد، وسلك سبيل المعرفة والتوسع في مذاهب العلماء، الذين أرشد الله لسلوك سبيلهم إذا ما رجحنا تفسير قوله: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) على أن المراد علماء الإسلام. وقد كتبنا كثيرًا وخطبنا وتكلمنا عن الخلط في مفاهيم التلقي، ولكن الحاجة تدعو إلى تكرار ذلك وتنويع الطرح، عسى ولعل لشاردٍ أن يعود، ولا سيما حين يتعدى الطرح إلى اتهام الشعوب وحكامها جملة وتفصيلا، بالعمالة وترك الدين، ويستغل المغرضون لذلك ما أصلوه في المجتمعات من جهل بسعة الفقه لكل المتغيرات، واستيعاب مذاهب العلماء لكل المستجدات التي لا يؤثر الأخذ بها من صحة الانتساب لهذا الدين العظيم، ولا يقدح إحياء تلك الآراء وإظهار ما أخفي منها في دين المجتمعات ولا في عاداتهم. وقد مرت كثير من الشعوب المسلمة بتجربة فرض «الرأي الواحد» سيان على مستوى المذاهب الأربعة أو على تبعية فلان من المشايخ والتجمهر حوله وجعل آرائه حكماً على صواب المجتمع وخطئه، وكانت نتيجة تلك التجارب حروبا طاحنة، بين دويلات ومدن وقرى وطوائف، ثم تلاشت تلك التعصبات وذابت في نضوج المجتمعات المسلمة وترفعها عن نصرة العصبية الفردية، وها هي تلوح من بعيد وتُؤْذِن بإعادتها جذعة، وتريد الحيلولة بين الدول والمجتمعات وبين ما يمكن أن يعمل به من مذاهب العلماء المخالفة لما رسموه في أذهان العامة بأنه الحق الذي ليس دونه إلا العلمنة والانسلاخ ومحاربة الفضيلة! وعند التحقيق والتمحيص لا تجد الأمر إلا هو هو، لا تغيير ولا تبديل إلا في مواضع وآراء لا تتعدى أن تكون مسائل علمية وخلافات فقهية، لكنها حين لامست شغاف المحظور المعتاد؛ حيث اعتقدوا أنه لا دين إلا بتبنيه، ولا رجولة إلا بسلوكه والسير فيه، غير مبالين بمن خالفهم من أئمة الإسلام، ويأوّلون الآيات والأحاديث وفق ما قرروه من الأحكام، وبالأخص فيما يتعلق بجانب المرأة، فقد منعوا الحديث عنها بصيغة «اختلف العلماء» فالأمر في نظرهم مؤامرة، وإن اضطرهم الأمر إلى جعل مذهب الجمهور «زلة عالم» بلسان حالهم أو مقالهم. إن التغيير الذي تحدثه المجتمعات «شعوبًا وحكاما» يجب أن يؤطر في «سور الخلاف الفقهي الإسلامي» فما قبلته آراء السابقين وفقه الأولين، فليس لنا إلا التأقلم معه وقبوله وإن خالف أهواءنا وما تميل إليه نفوسنا، فبقاء المجتمع في روضة «فقه الدليل» وأخذه منه ما تحتمله ألفاظه ومفهوم منطوقه ومفهوم مخالفته، في ضوء مذاهب تأصلت وعمل بها، وآراء دونت واحترمت واعترف بها، أحب وأليق وأولى من رمي الناس والحكام بالتخلي عن الدين والعمالة لأعدائه، وليس لنا كدعاة ومتفقهين إلا الاعتراف بما يظهره مخالفنا مما حرصنا على عدم نشره وكتمانه تحت مسمى «المصلحة» «وسد الذريعة»... ووو... إلخ، وهو خطأ علمي اقترفناه، وكأننا لم نكن نجد عبارة «اختلف العلماء» ولا كلمة «وخالف فلان» ولا كلمة «والمذهب القديم» ولا رأينا يومًا «ويحتمل الدليل كيت وكيت» ولا نظرت أعيننا مقالة»وخالف فلان وفلان وفلان وأجازوه» ولا كأن المطابع طبعت ملايين النسخ «وأباحه فلان وفلان وفلان من الأئمة» فأتينا على كل الخلافات ومحوناها بكلمة «أننا متبعون» وكأن من سبقنا وأسس لنا وقعّد وألف ودرّس ونقل ودوّن لم يفعل شيئًا، وليس من التابعين. فتركيز حديثنا عن الخلاف ليس «تطبيلا» كما نتهم به، وليس مداهنة كما قد يظن بنا، ولكنه اتساع الفهم للذود عن حياض الوطن، الذي يراد بعلم أو بجهل، بحسن ظن أو بسوئه أن يوصم قادته بالتخلي عن الدين، واتباع الأعداء واسترضائهم بهذا التغيير، والحق الذي لا مراء فيه أن الأخذ بقول لم يكن مأخوذا به ليس تخليا عن الإسلام، وليس اتباعا للرخص، كما قد يتوهمه أو يصفه بعضهم، بل هو جنوح للتيسير على الناس، واتباع قول من أقوال أهل العلم المعتبرين، المتبوعين، فهو إسلام ودين، حتى لو كان قولا مرجوحا عندنا، أو غير معروف لدى الكثيرين منا، فإظهار الخلاف ليس ترفا، وليس تمييعا، بل هو جمع للكمة خلف الإمام الذي بايعناه، وارتضيناه، ليقود السفينة إلى بر الأمان بما ولاه الله، وبما له علينا من طاعة، بالمعروف، هذا، والله من وراء القصد. Your browser does not support the video tag.