ألفاظ كثيرة ينفرون بها عن مخالفيهم، وهم بهذا يقضون على «روح الفقه» التي بها حياته وبقاؤه وهي «اختلاف الرأي» و»تعدد المفاهيم». وليس الأخذ بالأحوط والأشد من احتمالات الدليل إلا وجهة نظر لبعض الأئمة، يقابلها نقيضها، وهو الأخذ بالأيسر من مفهوم الدليل.. (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)، (وما جعل عليكم في الدين من حرج) (بشروا ولا تنفروا)، (يسروا ولا تعسروا)، (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه)، ونصوص غير هذه كثيرة مما نتلو ونقرأ. لن تجد أحدًا يتحدث بغير هذا المنطق، وأن الدين يسر، وقد جاء بما يسهل على النفس القيام به، لكننا نجد في الواقع كثيراً من الناس، وبالأخص من كثير ممن كلّف نفسه أعباء الدعوة إلى الدين، وتميز بمعرفة المسائل الفقهية أو بعضها؛ نجد بونًا شاسعًا بين تقريراتهم العامة وبين تفاصيل فقهياتهم، فلا نجد لهذه الترغيبات في التيسير في واقعهم العملي مكاناً، ونجدهم اتخذوا منهج النظر في الدليل، وإلغاء كل دلالاته المحتملة والإبقاء على موضع الموافقة لما في نفوسهم، ومن ثم إيهام الناس أن الدليل لا يحتمل إلا هذا المعنى، ومع أن هذا المنهج مخالف لما عليه أهل العلم والنقل من الحرص على استيعاب الخلاف عند كل مسألة، ليتبع المستفتي ما يطمئن إليه قلبه، فأصحاب هذا الأسلوب قد تجاوزوا الخطأ والتقصير إلى تعمد الإساءة لمخالفيهم، واختلاق الأساليب والألفاظ المنفرة عنهم، ولو اضطرهم الأمر إلى إلباس الألفاظ البريئة معاني قبيحة، كما يفعلون فيما اعتمدوا من الأخذ بالأحوط عند الخلاف في تسمية ما يقابلهم من رأي ب»التساهل» وأحيانًا ب»التمييع» وأخرى ب»تتبع الرخص» وأحيانًا يقولون «زلة عالم»! ألفاظ كثيرة ينفرون بها عن مخالفيهم، وهم بهذا يقضون على «روح الفقه» التي بها حياته وبقاؤه وهي «اختلاف الرأي» و»تعدد المفاهيم». وليس الأخذ بالأحوط والأشد من احتمالات الدليل إلا وجهة نظر لبعض الأئمة، يقابلها نقيضها، وهو الأخذ بالأيسر من مفهوم الدليل، وهو ما يتفق تماماً مع الأدلة العامة والآثار المرغبة في التيسير. ومن التنفير العجيب الذي اتخذه بعض هؤلاء الخلط بين مفهوم «تتبع الرخص» ومفهوم «الأخذ بأحد احتمالات الدلالة» وهذا ينبئ عن تجاوز لمصطلحات الألفاظ، فليس هناك تلازم بين الأمرين، إذ إن مصطلح الرخصة هو: «ما جاز فعله لعذر مع قيام السبب المحرِّم»، فالرخصة بمعنى الاستباحة المؤقتة لترك واجب أو فعل محرم. ولا شك أن المسلم يحتاج أحياناً إلى الرخصة بهذا المعنى، لعوارض الحياة، ولا تكون سجية له، وما عناه الفقهاء من النهي عن تتبع الرخص هو ما يؤدي إلى خلع ربقة التكليف عن النفس، فيأخذ من كل رأي ما أباحه لسبب أو لعارض، فلا شك أن هذا لا يفعله أحد إلا افتراضاً، ولم يقصدوا النهي عن الأخذ بالأيسر من دلالة الآية أو الحديث، فهذه مسألة أخرى تماماً، وموضعها حيث لم يترجح عنده وجه من وجوه الدلالة، كسائر الناس والمبتدئ في طلب العلم فإنه يأخذ بالأيسر له ولا يلزم بأخذ الرأي الآخر، وهو ما قرره العلماء عند تعدد الرأي في المسألة، ورجحه أيضاً الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -، وهو ما ندندن حوله دائمًا، ففي الحديث: «ماخير رسول الله بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا». وكذلك الحال فيمن يردد قوله: «زلة عالم» وهو لا يعرف معنى «زلة» ولا ضوابطها، وللفائدة فضابط الزلة منافاتها للدليل القطعي، وتفرد صاحبها بها، ولا تجدها خرجت عن عدد من المجتهدين، فإنّ تتابع المجتهدين في رأي يدل على اعتباره وقوته، فالزلات معدودة ولا يتتابع عليها المجتهدون، كما قال الغرناطي في نيل المنى: وهي منافاة الدّليل القطعي المقتفَى سبيله في الشّرعِ وأهل الاجتهادِ يعرفونا موضعَها معرفةً يقيناً ولكنّ كثيرًا ممن يمرون على تأصيلات السلف لا يأخذون منها إلا ما يخفف عنهم عناء البحث، فيلقون بالثقل كله على من يستفتيهم ب»الأخذ بالأحوط»، «وسد الذرائع»، ثم يصمون من لم يأخذ بقولهم بالتساهل، ويحذرون منه، وكأن التشديد هو الأصل، ( ولو شاء الله لأعنتكم)، فيبصرون على العنت، والتنقيب عنه، وإلزام الناس به، وإلا فهو متساهل، يدعي الوسطية، ويزعم الاعتدال. هذا، والله من وراء القصد. Your browser does not support the video tag.