كنت عائداً من لندن، عندما صرخ صبي هلالي بأعلى صوته: الحاج شريف وصل.. الحاج شريف وصل! والحاصل أنني اختفيت عن الأنظار فجأة وغادرت مصر للعمل في مجموعة «الشرق الأوسط» بلندن، ويبدو أن، توقيت عودتي للمرة الأولى إلى مصر تصادف مع أيام عودة الحجاج، وما يصاحبها من مظاهر احتفالية غاية في الروعة، ولأن ذلك كذلك، فقد انطلقت الزغاريد في الشارع، وأحاطت نسوة العائلة بالسيارة، فيما تبادل البعض إشارات الاستغراب من عدم طلاء البيت، قبل وصولي فضلاً عن عدم الاستعداد بالشربات! انطلقت عبارات الترحيب بمقدمي من الأراضي الحجازية، وأداء الفريضة، وزيارة المصطفى صلى الله عليه وسلم، قبل أن تطلب «فاطمة» زوجة أحد أبناء العم من الجميع بمن فيهم ابنها الذي صرخ منادياً ومبشراً بوصولي من الحج، الانصراف الآن حتى يستريح «الحاج»، وفي المساء، سيفتح «الشنط» بالتأكيد لاستخراج «السبح والمصليات والأثواب والإيشاربات»، وأنا في موقف لا أحسد عليه! لقد زاد من قناعة المتجمعين للتهنئة بالحج، والعودة من السعودية، رؤيتهم لسائق السيارة وهو يُخرج من الكرسي الخلفي صندوقاً يضم جهاز كاسيت كبيراً، وهي العادة التي درج معظم الحجاج العائدين عليها، فضلاً عن إنزال عدد من الحقائب الصغيرة والكبيرة، مردداً هو الآخر: حمداً لله على سلامتك ياحاج!. تهلل وجه أمي، فرحا بوصولي، وهي تضحك وتردد ربنا يكتبهالك! وبعدها بعامين كانت تقف معي على عرفات، وهو الأمر الذي تكرر بفضل الله، مرات ومرات!. عدت إلى ذكريات وطقوس وداع واستقبال الحجاج في قريتي، بدءاً من إعلان نتيجة القرعة، حيث تنطلق الزغاريد، ونهاية بعودة الحاج أو الحاجة، حيث تخرج العائلة لمطار القاهرة، أو ميناء السويس، قبل أن يعود الجميع فيما يشبه الزفة! أتذكر هنا بكاء عمي الحاج غريب.. كان شيخاً له لحية، جميل الوجه والبسمة، وصاحب مروءات متعددة.. تغني ليلى مراد مع دخول أيام وليالي الحج: يارايحين للنبي الغالي.. هنيالكم وعقبالي.. تنهمر دموع الرجل، وهو يردد عليك صلاة الله وسلامه! تنطلق الأهازيج، وتسأل النسوة: رايحة فين يا حاجة يا شاقة البحوري» وترد أخرى متقمصة الدور: رايحة أزور النبي وأزمزم شعوري! رايحة فين يا حاجة يا أم توب سماوي؟ رايحة أزور النبي وأرجع على القناوي! حاجة يا حاجة يا أم شال قطيفة.. رايحة فين يا حاجة ..للكعبة الشريفة!. وإمعاناً في الفرح، يفاجأ الحاج ببيته وقد تم طلاؤه بألوان مفرحة وزاهية، وتزيينه بعبارات جميلة مثل «حج مبرور وذنب مغفور» أو جزء من آية كريمة أو حديث شريف، مع توقيع كبير لصانع الفرح يقول «صناعة المعلم زين مبروك»! لقد كانت رسومات بل جداريات الحج في ذلك الزمن شكلاً فريداً من أشكال العمل الفني الذي دفع بكاتب مثل آفون نيل أن يعود لمصر لتأليف كتابه «رسومات الحج « بالاشتراك مع المصور آن باركر. والذي حدث أن آفون كان في طريقه بالقطار من القاهرة لأسوان عندما لمح رسومات الحج الجميلة على جدران المنازل. كانت الجدران تحكي قصة الرحلة الجميلة بدءاً بالجمل ثم الباخرة أو الطائرة، «ومع السلامة يا حاج جمعة»، قبل أن تدخل بك في رحاب مكة حيث صورة الكعبة ومقام إبراهيم وحجر اسماعيل، «واتَّخِذوا من مقام ابراهيم مصلى» ثم زيارة المدينةالمنورة حيث قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم والروضة الشريفة.. و»ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة». وبالإضافة لكتاب إفون نيل، هناك كتاب آخر للمستشرق الفرنسي ليون بيلي بعنوان «حجاج في طريقهم إلى مكة» وهو يتضمن لوحات رائعة رسمها بنفسه عام 1861، ومع ذلك تبقى في ذاكرتي رسومات «المعلم زين» الذي أظنه كان يستعين بخطاط بارع يتولى كتابة الآيات والأحاديث الشريفة، على النحو الذي كان يفعله الفنان القبطي البسيط ابن ساحل سليم بأسيوط «يسري بولس سعيد». يجلس الحاج في المساء ويتحلق حوله المهنئون من الأقارب والجيران، وهو منخرط في الحكي، حيث كان السكن قرب أجياد أو بالقرب من «جرول» وكان الطواف سهلاً، وكانت الدعوات في عرفات لكل واحد منكم بالاسم! دعيتلي يا حاج بما كلفتك به؟! يسأل الفتى، وهو يرسل من خلال السؤال رسالة إلى أبيه، أو الى جاره الذي ينوي خطبة ابنته، فيرد الحاج: دعيتلك وسوف نفرح بك قريباً باذن الله! وأنت يا فلان دعيتلك بالشفاء، ودعيت لابنك بالهداية! يبدأ الحاج في توزيع الهدايا، فهذه مسبحة من عند الرسول، وتلك (المُصليِّة) من جوار الكعبة، وهذا الثوب الناصع «الوردة البيضاء» من عزيزية مكة، وهذا «الراديو» من باب شريف في جدة، وتلك العباءة السوداء من الحبابة في المدينة، فيما يحرص الحجاج السابقون على الفتيا، فيما يتعلق بما يجوز وما لا يجوز، قبل أن تدخل الصبايا بصواني الغداء أو العشاء.