قبل نحو عشرين عاما، وخلال الفترة 1-8 رجب 1419ه كنت ضمن وفد رسمي برئاسة الشيخ محمد بن جبير -رحمه الله- رئيس مجلس الشورى آنذاك في زيارة «برلمانية» لدولة السنغال، وتكّون الوفد من نحو اثنى عشر عضوا ممثلين للجان المجلس أذكر منهم الأخوة الزملاء الدكاترة عبدالرحمن الشبيلي، حمد الصقير، بندر الحجار، عبدالعزيز داغستاني وغيرهم. ونظرا لطول زمن الرحلة الجوية من الرياض إلى داكار العاصمة قرر معاليه ضرورة التوقف في تونس ليومين للراحة وزيارة بعض كبار الشخصيات في مقدمتهم فخامة رئيس الدولة والبرلمان التونسي، وعلمنا فيما بعد بأن هناك دعوة مؤكدة وبإصرار لزيارة المرحوم الدكتور محسون بهجت جلال أستاذ الاقتصاد المعروف بجامعة الملك سعود ورجل الأعمال الذي قرر قبل وفاته بسنوات الإقامة الدائمة في تونس. قمنا بزيارته رحمه الله في منزله العامر في إحدى ضواحي العاصمة التونسية، حيث استقبلنا ببشاشته وترحيبه المعهودين، وتداولنا معه الحديث في موضوعات اقتصادية عامة وهامة، وقبل أن نعزم على المغادرة أهدى نسخة من كتابه المطبوع حديثا آنذاك لكل عضو من أعضاء الوفد، كتاب من القطع الكبير يقع في 430 صفحة ويحمل العنوان التالي: «زراعة البترول - رحلة مع الزمن: مقالات، أبحاث، ومقابلات» جمع بين دفتيه بعض إسهاماته العلمية والعملية وملامح من سيرته الذاتية بأسلوب شيق ممتع. هذه المقدمة كانت ضرورية لا تمكن من القول أنني تشرفت بالتتلمذ على يد هذا النابغة الاقتصادي عندما عاد بالدكتوراه في منتصف الستينات من القرن الماضي 1967م وعين أستاذا مساعدًا بقسم الاقتصاد بكلية التجارة، جامعة الملك سعود حيث اشتهر بالجدية والصرامة وعمق المعرفة والشفافية وقوة الحجة بالإضافة إلى تعامله الإنساني مع طلابه وزملائه. ولعل أول ما يلفت انتباه القارئ هو اسم الكتاب «زراعة البترول»!! فكيف يُزرع البترول في بلد البترول في حين أن المفهوم الدارج هو استخراجه كمادة خام أو تكراره وبيعه كمورد رئيسي لإيرادات الدولة اعتمدت ولا زالت تعتمد عليه منذ اكتشافه بكميات تجارية؟ وبالرغم من ضخامة الكتاب وتنوع أبوابه إلا أنه جدير بالقراءة بل وبالتدريس لطلاب الجامعة خاصة الأجزاء ذات الطابع الأكاديمي التي يعكس فيها المؤلف نظريته الاقتصادية علما وتطبيقا. ويعود الفضل في نشر مفهوم زراعة البترول إلى الدكتور محسون جلال عبر صفحات مجلة اليمامة سنة 1973م إذ لقى صدى طيبا لدى الكثير من الاقتصاديين السعوديين وأصبح أساسا ومرجعا للعديد من الخطط الاقتصادية الوطنية التي تبنتها الدولة فيما بعد.. و»تتلخص فكرة زراعة البترول في وضع الخطط لتوجيه الإيرادات من البترول إلى تنمية زراعية وصناعية واجتماعية، وبعبارة أخرى إعادة البترول إلى الأرض أو تثبيته في الأرض أي زراعته « (ص30) هكذا تكون زراعة البترول بكل بساطة. ولعمري أليس هذا ما تسعى إلى تحقيقه الرؤية (2030) الحديثة؟ فبنظرة فاحصة نجد أن هدف الانفكاك التدريجي من قبضة النفط وتنويع مصادر الدخل ماهو إلا محاولة لإنقاص دور النفط في الناتج المحلي وزيادة مساهمة القطاعات الأخرى فيه، بمعنى الاحتفاظ بمخزون النفط في باطن الأرض وما يستخرج منه لغرض الاستهلاك المحلي أو التصدير توجه إيراداته لتغذية برامج الدولة الصناعية والاجتماعية والتقنية. فكلما أنخفض دور النفط في عجلة الاقتصاد وارتفعت أدوار القطاعات الأخرى كلما انعكس ذلك إيجابيا على مؤشرات الأداء الاقتصادي مثل انخفاض العجز، وانخفاض نسبة الدين العام، وانخفاض نسبة البطالة، وارتفاع معدلات التوظيف في القطاع الخاص بالإضافة إلى تحقيق وفورات عدة في الانفاق العام. رحم الله الأستاذ الدكتور محسون جلال الذي كان له الفضل في ابتكار ونشر هذا المفهوم بل وفي إرساء مبادئ علم الاقتصاد السعودي علما وتطبيقيا. أُثيرت عندي هذه الذكريات وأنا أقرأ التقرير الوافي الذي أعده الدكتور عبدالله المدني، عن سيرة الدكتور محسون جلال رحمه الله (عكاظ العدد 18927) والذي انتهى بالاقتباس من أحد الكتاب (عادل المكينزي، الاقتصادية، 21/11/2008م) قائلا (إن الجميع مدعو لأداء لمسة وفاء لهذا الرجل، وإذا كنا قد فاتنا فرصة تكريم رجل بهذه القيمة وهو على قيد الحياة فلا ينبغي أن نستمرئ التقصير ونهمله بعد وفاته). لقد كرم محسون جلال ونال الأوسمة في عديد من الدول، ومع كل التقدير لهذه البلدان، فنحن أولى بتكريم محسون منهم. نتذكر محسون جلال فنتذكر الصبر والمثابرة، فكم كان محسون مليئا بروح التحدي والإصرار، وكم كان شديداً لعريكة لا تلين عزيمته ولا يستسلم لدعوات التيئيس والإحباط.