سعدت بقراءة ديوان (نخيل) للشاعر السعودي المعروف محمد الجلواح الصادر حديثاً عن دار السكرية المصرية. حين وجدت صفحاته تنيف عن عشرين ومائتين ظننته سيستغرق مني وقت قراءة ديوانين، على أساس أن معدل الديوان المعتاد من مائة إلى مائة وعشرين صفحة. لكن الجلواح كان يعد لنا مصيدة، فصفحة ديوانه تعدل أربع صفحات من غيره من الدواوين، بسبب تقارب الأسطر وصغر حجم الخط (البنط)، لكن هذا منحني المزيد من المتعة والمزيد من الثروة المعرفية.. إن أول من يطالع (نخيل) الجلواح يتذكر ويصدِّق المقولة المعروفة: «الشعر ديوان العرب» لأنه ليس ديواناً شعرياً فحسب؛ بل هو كتاب تاريخ للمملكة، ورجالها من علماء ومؤرخين ومربين، وهو سجل لأحداثها ومناسباتها، ولأحداث بعض أقطار الوطن العربي، وهو تعريف موجز بعدد كبير من مدن المملكة. والسر في هذا يكمن في أن الجلواح لم يترك قصيدة ولا مقطوعة إلا ذكر مكان إنشائها وتاريخه هجرياً وميلادياً، ومناسبتها - إن كانت ذات مناسبة - ولا يترك الشخصية التي تتناولها القصيدة مدحا أو رثاء إلا ترجم لها ترجمة موجزة. يتصدر الديوانَ إهداؤه إلى: «الحياة التي نعيشها بكل ألوانها ومخلوقاتها وصورها وفسيفسائها وظروفها». [ص13].. ولا بد أن نتوقف عند هذا الإهداء لأنه يفسر لنا سر تعلق شاعرنا بالحياة وعشقه لها، وسريان عدوى حب الحياة لحب ما فيها.. لذا فإننا نبصر (الحب) يسري بين حروفه مهما كان الموضوع. يقول [ ص23]: الحب أصلح فينا كل مثلبة وحصّن القلب من غيظ ومن شررِ وليس للحب عنده حدود. يقول مخاطبا إحدى الملهمات [ص107]: ليس للحب يا (اعتدال) حدود أروع الحب ما تعدى حدودَهْ يفتتح الديوان بمعادلة عنوانها (مفتاح النخيل). تقول المعادلة/المفتاح: «كل قصيدة.. هي نخلة. كل امرأة.. هي نخلة. كل القصائد والنساء.. نخيل»!.. [ص20] وقد عبر - بصدق - عن هذه المعادلة بقوله يصف تعامله مع النخلة [ص21]: وحين يتغزل بامرأة يعلنها دون مواربة - كما يعلن اسمها في كثير من الأحايين - فأيّة مزية أو وظيفة للمرأة؛ فهو يراها في الأصل أنثى. يقول من قصيدة (أريدك أنثى) [ص44]: وللغزل الرقيق حصة الأسد في الديوان. يقول في زينب [ص180]: ويصف زمام (فتاة السودان) [ص76] وكيف زينته - هي - ولم يزينها: وكثيراً ما يقع الشاعر العاشق في التردد والحيرة. وقد عبر عن ذلك في قصيدة بعنوان (مطاردة) [ص67]: ومثل ذلك تردده في موضع آخر [ص102]: أما الشعر فهو موضوع جوهري بالنسبة له. يقول [ص164]: والجلواح اجتماعي بامتياز، يشارك في المناسبات؛ بل يسهم بيده وقلمه ولسانه، وحسبك أن تطالع مَنْ مدح ومن رثى، ومن هنَّأ ومن عزَّى لتدرك أنك أمام رجل يقدِّر للرجال مواقفهم، ويحتفي بهم من أجل تلك المواقف. وهو صديق الجميع، وديوانه شاهد عيان على حسن تعامله مع رفاقه وأقاربه وزملائه ومعلميه؛ يبادرهم بأبيات في كل مناسبة، ولا يهمل الرد عليهم ولو بعد حين!.. وحين أقول بعد حين فإني أعنيها، فقد لحظت من ردود شاعرنا على من ابتدروه بأبياتهم أن بعض الردود تأخر أكثر من عشر سنوات، وكأني به حين نوى إصدار ديوانه الجديد أعاد النظر في ملفاته، وتتبع القصائد التي لم يرد عليها في حينها فأنشأ الرد مراعيا وزن قصيدة المُنشئ ورويها وعدد أبياتها، وربما زاد على ذلك بيتا أو بيتين ضريبة التأجيل! ولنقرأ له نظرته للأصدقاء في قصيدة (حادي العيس) [ص53]: وكما تضمن ديوان شاعرنا قصائد كثيرة يحيي فيها الأصدقاء، ويعبر عن اعتزازه بصداقاتهم وهم أحياء، فقد حفل الديوان بقدر هائل من قصائد الرثاء. وفي رثائياته - فضلا عن ذكر الحزن والدموع والشعور بالفقد - لا يفتأ يسأل سؤال المكذب عن الخبر، وعن الغياب أهو مؤقت أم أبدي؟! يقول في مرثية السيد باقر بن السيد الشخص [ص166]: وشاعرنا وإن كان دائم البسمة؛ إلا أنه كأي إنسان يفرح ويحزن، ولذا فهو يعجب من الذين يطالبونه بألا يحزن. يقول [ص106]: وينشد عمن يضحك الروح منهم وما يُدريهم أنه قد يكون حزينا، لكنه يخفي ذلك مراعاة لمشاعرهم؟!.. وفي قصيدته (حريق وماء) خرج عن هدوئه المعتاد ليصب جام غضبه على (كلاب الشر) الذين أرسلتهم الحياة ليقفوا في دربه [ص192]: لكنه يعلن تحديه [ص193]: والجلواح محب للأحساء وللنخيل معاً، يحمل حبه لهما أينما حل، ففي حائل عندما زارها ورأى رمالها أخذ يقارنها برمال الأحساء فقال [ص70]: وحين زار الباحة أخذ يوازن بين ما فيها من زهور وفواكه بما في الأحساء من نخيل يقول في قصيدة (تحية الرطب للكادي [ص136]: (الكادي والبرك نباتان عطريان في الباحة والطيار والغر من أنواع تمور الأحساء). وحتى في (بسكرة) يقارن بين (خلاص) الأحساء و(دقلة النور) الجزائرية [ص184]: (وللحديث صلة) ** **