يلجأ السيراليونيّ إشمائيل بيه في «الطريق الطويل» الى مذكّراته حين جُنّد ضمن صفوف القوّات المسلّحة في بلاده ليقاتل المتمرّدين وهو صبيّ في الثالثة عشرة من عمره، ويسرد كيفيّة تركه القتال إثر تأهيله في مركز صحّي، ثمّ اختياره تالياً الدعوة السلميّة ومناهضة العنف للحؤول دون وقوع أطفال بلاده في براثن الاقتتال والنزاعات المسلّحة التي تتمّ فيها التضحية ببراءة الطفولة بين الكثير من الأشياء التي تتمّ التضحية بها. يستهلّ إشمائيل مذكّراته (ترجمة سحر توفيق، الشروق القاهرة، ومؤسّسة محمّد بن راشد آل مكتوم) بالحديث عن أنواع القصص التي كانت تروى عن الحرب والتي جعلها تبدو وكأنّها تحدث بعيداً في أرض أخرى، ويذكر أنّهم في قريتهم الصغيرة لم يشعروا بوطأة الحرب إلّا حين بدأ اللاجئون يمرّون بهم، ويروون لهم الفظائع التي تعرّضوا لها وشاهدوها. يصف حال الأطفال الذين كانوا يفزعون عند سماع قطع الخشب أو عندما يسقط حجر على سقف من الصفيح، كما يصف حال الكبار الذين كانوا يتوهون في أفكارهم أثناء الحديث مع أهالي القرية. ثمّ يصف ما كان يتملّكهم من ذهول جرّاء هول ما يسمعون وغرابته، ما دفع قسماً منهم إلى التشكيك بتلك الحكايات وأصحابها. يصف الكاتب التلامس الأوّل بينه وبين الحرب التي تتجسّد أمامه كغول ينهش البشر والبلاد، يصوّر كيف أنّه كان طفلاً في الثانية عشرة من عمره، يتعامل ببراءة مع العالم، يؤسّس مع إخوته ورفاقه فرقة موسيقيّة، يستمعون إلى الموسيقى الأجنبيّة، يرقصون ويمرحون، بعيداً من جنون الحرب الذي لم يكن قد أحرقهم بعد، فتشتّت شملهم، قُتل إخوته وأصبح هو مقاتلاً قاتلاً. يسترجع تاريخ بلاده سيراليون التي رزحت تحت وطأة الاستعمار البريطانيّ منذ 1808 حتى استقلّت عام 1961. وكيف تمزقت البلاد على يد الأنظمة المتعاقبة التي انتهت بانقلابات عسكريّة عنيفة، هذا مع استمرار النزاع المسلّح مستعراً بين مختلف الأطراف المتقاتلة، ويسترجع حقبة السياسات العفنة التي نخرت تركيبة المجتمع وخلّفت عصابات متناحرة مدفوعة بالانتقام وغريزة البقاء. يحكي إشمائيل كيف أنّ القرارات التي قد تبدو منطقية في الأحوال العادية تكون غريبة في أوقات الحرب، لأنّ الأشياء والمعطيات تتغيّر بسرعة، ولا أحد لديه القدرة على التحكّم في أيّ شيء، ثمّ كيف أنّ الناس يكتسبون خبرات جديدة ويطبّقون تكتيكات البقاء على قيد الحياة وقد يبرّرون القتل والسرقة والإجرام بحجج واهية. ويشير إلى إشكالية أن يضطرّ الناس إلى إيذاء الآخرين انطلاقاً من شكّ بسيط بهم وذلك في ضربة استباقيّة لحماية أنفسهم وذويهم، ويذكر أنّ الحرب الأهلية تنزع الثقة من النفوس وتزرع الشكّ القاتل بحيث يصبح كلّ غريب عدوّاً، وحتّى الناس الذين يعرفون بعضهم يصبحون شديدي الحذر في التواصل والتعامل مع بعضهم بعضاً. يحكي كذلك جانباً من الفظائع الوحشيّة التي شاهدها من جهة وأخرى شارك فيها كمقاتل مجنّد ضمن صفوف أحد التشكيلات العسكريّة، وذلك حين كان يهرب برفقة عدد من الصبيان، بعد أن تقطّعت بهم السبل، وتمّ إعدام أهلهم وحرق قراهم من جانب المتمرّدين، وبعد أن نجوا من حالات عدّة كادوا أن يقعوا ضحيّة جهل الآخرين وتشكيكهم بهم. يعترف إشمائيل بجانب مظلم أثّر كثيراً في حياته، وتسبّب له بعقد نفسيّة مستعصية، إذ قتل كثراً أثناء مشاركته في القتال وهو الصبيّ الذي تعرّف إلى العالم عبر الدماء والتشوّهات، وجد نفسه منخرطاً في الحرب متوهّماً أنّه يحقّق رجولته أو ينتقم لأهله الذين أُبيدوا من دون أن تتسنّى له رؤيتهم. يكشف النقاب عن الويلات المقترفة من جانب مختلف الأطراف في مناطق النزاع، وكيف أنّ لا مكان للإنسانيّة والتراحم هناك، حيث يسود القتل والتنكيل والإجرام والثأر، ويتعاظم العنف بحيث يكون هناك تأميم للقتل ومباركة للقتلَة واحتفاء بهم. يذكر إشمائيل أنّه أعيد تأهيله، ويحكي بمرارة سنوات مشاركته في الحرب، واشتراكه في ارتكاب كثير من المجازر، وتعاطيه الكوكايين وتوحّشه وفقدانه جانبه الطفوليّ الحميم الذي استلبته الحرب إيّاه، وتمكّن من العودة إليه بعد أشهر من المعالجة والمتابعة والإرادة القويّة للتخلّص من سطوة العنف ونداء الثأر والانتقام. الطريق الطويل الذي سلكه إشمائيل كصبيّ مجنّد انتهى به إلى برّ الأمان على عكس الألوف من أطفال بلده الذين ظلّوا غارقين في مستنقع الاحتراب، بحيث تكون الطفولة المهدورة الضحيّة الكبرى على هامش الحرب. إذ يختار الرحيل عن بلاده إثر الانقلاب العسكريّ عام 1997، لأنّه كان يخشى في حال بقائه أن ينتهي به الأمر جنديّاً مرّة أخرى، أو سيقتله زملاؤه السابقون من الجنود إن رفض المشاركة معهم، ويتأسّف أنّ بعضاً من أصدقائه الذين مرّوا بمرحلة التأهيل معه قد عادوا إلى الالتحاق بالجيش. يختتم مذكّراته بعبرة حياتيّة يسترجعها من ذاكرته الطفوليّة، حين كان الكبار يحكون لهم حكاية الصيّاد الذي كان في صدد إطلاق النار على قرد في الغابة، فيخيّره القرد بين خيارين أحلاهما مرّ: إن أطلق عليه النار فستموت أمّه، وإن لم يطلق فسيموت أبوه. وكان ذاك التخيير تعجيزاً واتلافاً لبراءة الطفل المتشبّث بوالديه معاً، لكنّ إشمائيل يؤكّد قناعته بوجوب إيقاف الصيد والقتل لئلا يكون الخيار دمويّاً وبين عزيزين، ثمّ يشير إلى أنّه كان في طفولته ينوي اختيار قتل القرد لا لكرهه لأمّه أو تضحيته بها، بل لئلا يقع غيره في المصيدة الورطة التي ينصبها الصيدُ المفترض للصيّاد القاتل نفسه. روي إشمائيل بيه أمام الأمم المتّحدة مأساة الأطفال في بلاده أثناء الحرب، أبرز أنّ الحرب هي المشكلة الكبرى التي تؤثّر في الأطفال في بلاده والتي تجبرهم على الهروب من بيوتهم وفقدان عائلاتهم والتجوّل بلا هدف في الغابات. ونتيجة لذلك، يتمّ تجنيدهم ويتورّطون رغماً عنهم في النزاع كجنود، أو يستخدمون لحمل الأحمال الثقيلة وفي كثير من المهام الصعبة. يعزو ذلك إلى الجوع والتيتّم والحاجة للشعور بالأمان، والرغبة في الاحتماء بشيء حين ينهار كلّ شيء، ويكون الانتقام أحد الدوافع الرئيسة لتجنيدهم. إشمائيل بيه مواليد 1980 وانتقل إلى الولايات المتّحدة 1998 حيث أكمل السنتين الأخيرتين من دراسته الثانوية في مدرسة الأمم المتّحدة الدولية -نيويورك، تخرّج في كليّة أولبرين عام 2004 وهو عضو في اللجنة الاستشاريّة لحقوق الإنسان- قسم مراقبة حقوق الأطفال.