لنتأمل حكاية أحد نُسّاك بغداد، واسمه حسن الفلاّس... جاء حسن يوماً إلى رجل يقال له بشر، وهو في المقابر، فقال له: «يا حسن! ما يود هؤلاء إلا أن يُرَدوا فيصلحوا ما أفسدوا؟ ألا وأن البلاء كله في هواك، ومن غلب هواه فهو الغالب»، فرجع حسن فعاهد الله ألا يأكل ما يُباع ولا ما يُشترى، ولا يلبس ما يُباع ولا ما يُشترى، ولا يمسك بيده ذهباً ولا فضة، ولا يضحك أبداً، وكان يأوي ستة أشهر في العباسية، وستة أشهر حول دار البطيخ، ويلبس ما في المزابل... وقيل إنه بقي 30 عاماً لا يرفع رأسه إلى السماء حياءً من الله، فرفعه مرة، فقال: قد طال شوقي إليك فعجل قدومي عليك. هذه حكاية واحدة من مئات، بل آلاف الحكايات عن الزُهاد والمتعبدين، التي تكتظ بها كتب التراث الغوابر... تعد أقوال وأخبار هؤلاء الأقدمين نبعاً لطالما غرف منها الدعاة قصصاً يوشحون بها مواعظهم، لعل في قراءتها، أو في سماعها، تهذيباً للنفوس، وتشذيباً للشهوات، وتعويداً للقلب على ترك الملذات... عندما أمر بمثل تلك الحكايات، أتساءل في داخلي عن مدى حقيقة تلك الأخبار وصدقها، فمن ذا الذي لا يأكل، ولا يشرب ما يُباع ويُشترى؟ ومن ذا الذي لا يضحك ولا يلبس إلا ما في المزابل؟ ومن ذا الذي لا ينظر إلى السماء 30 عاماً؟! يسوطنا الدعاة بحكايات على تلك الشاكلة، ولسان حالهم يقول: أين أنتم من هؤلاء؟ ولو أننا جمعنا ما فينا من جلد على الزهد والتنسك لما بلغنا مجتمعين عشر ما كان عليه حسن الفلاَس! قبل أعوام خلت، واسى أحد الوعاظ، عبر برنامج إذاعي، أولئك الذين احترقت أسهمهم، وتبخرت ثرواتهم، وتهدمت أحلامهم في أزمة سوق المال الشهيرة، بالقول: «لا تحزنوا... ولا تبتئسوا... فما من شيء في الدنيا يدعو للحزن»، ثم طفق يحدثنا عن أحد العُبّاد واسمه وُهيْب... كان وُهيْب لا يأكل من الفواكه، فإذا انقضت السنة وذهبت الفواكة، كشف عن بطنه وقال: «يا وُهيْب ما أرى بك بأساً، ما أرى تركك للفواكه ضرّك شيئاً»... ما نفع هذه الحكايات مادام لا الواعظ ولا الموعوظ بقادرين على الكشف عن بطنيهما بعد انقضاء عام بلا فواكه ليقولا ما قاله وُهيْب؟! حقيقة، أنا لا أشعر بالاطمئنان الكافي لسماع تلك المرويات الممرغة في رماد الأحزان، والمبللة بدموع الوجد والهوان... ثم، أليس في القهر التام للجسد والاستئصال الكلي لشهوات النفس حيود عن الفطرة السليمة، وزيوغ عن سنة الله ورسوله؟ ثم، من يضمن لنا كذلك صدقية تلك المرويات، على رغم الفاصل الزمني الممتد بين تاريخي الحدث والتدوين؟ إن من يجعل هؤلاء الرجال بقادرين على السير على صفحة الماء لقادر كذلك على تلوين أخبارهم بألوان أسطورية تستعصي على القبول والتسليم. أما عن علاقة الزُهّاد بالولاة والحكام فتلك مسألة أخرى... فما من حوار جرى بينهما إلا وخرجت بأمرين اثنين لا ثالث لهما، أولهما: جرأة الزاهد واستخفافه بسيف السلطان، وثانيهما: جهل السلطان وسذاجة عقله... يحكى أن هارون الرشيد خرج بصحبة وزيره يريد رجلاً يعظه، فطرق وزيره باب «ابن عيينة»، فحادثه الرشيد ساعة، ثم انصرف وقال لوزيره: ما أغنى عني صاحبك شيئاً... ثم طرق وزيره باب «الصنعاني»، فحادثه الرشيد ساعة، ثم انصرف وقال لوزيره مقالته نفسها... ثم طرق وزيره باب «الفضيل بن عياض»، فوعظه الفضيل، فبكى الرشيد بكاءً شديداً ثم خرّ مغشياً عليه، فلما أفاق، وعظه الفضيل ثانية، فجرى للرشيد ما جرى له قبلاً، فلما أفاق، وعظه الفضيل ثالثة، فجرى للرشيد ما جرى له قبلاً. إن ما يجعلني أشكك في تلك القصص أن أولئك الولاة والسلاطين المولعين بسماع المواعظ حتى البكاء ظلت أيديهم ملطخة بالدماء حتى الممات، وكأنهم ما سمعوا يوماً موعظة وما بكوا يوماً حد الغشيان! [email protected]