محافظ الزلفي يطلق حملة الدين يسر    «تأشير» ل «عكاظ»: 200 مركز لخدمات التأشيرات في 110 دول    استمرار تأثير الرياح المثيرة للأتربة والغبار على الشرقية والرياض    «السياحة»: «الممكنات» يخلق استثمارات تتجاوز 42 مليار ريال و120 ألف وظيفة    «التعليم»: اعتماد حركة النقل الداخلي للمعلمين    فائدة جديدة لحقنة مونجارو    علامات ضعف الجهاز المناعي    السعودية تستضيف الاجتماع الخاص للمنتدى الاقتصادي العالمي    معرض برنامج آمن.. الوقاية من التصيُّد الإلكتروني    معادلة سعودية    رئيس الطيران المدني: إستراتيجيتنا تُركز على تمكين المنافسة والكفاءة    قطع السيارات والأغذية أكثر السلع.. تقليداً وغشاً    المملكة تجدد مطالباتها بوقف الاعتداءات الإسرائيلية على المدنيّين في غزة    عدوان الاحتلال.. جرائم إبادة جماعية    القوات الجوية تشارك في "علَم الصحراء"    المطبخ العالمي    شاهد | أهداف مباراة أرسنال وتشيلسي (5-0)    «خيسوس» يحدد عودة ميتروفيتش في «الدوري أو الكأس»    في انطلاق بطولة المربع الذهبي لكرة السلة.. الأهلي والاتحاد يواجهان النصر والهلال    الهلال يستضيف الفيصلي .. والابتسام يواجه الأهلي .. في ممتاز الطائرة    يوفنتوس يبلغ نهائي كأس إيطاليا بتجاوزه لاتسيو    مبادرة 30x30 تجسد ريادة المملكة العالمية في تحقيق التنمية المستدامة    إنسانية دولة    مجلس الوزراء: 200 ألف ريال لأهالي «طابة» المتضررة مزارعهم وبيوتهم التراثية    تفاهم لتعزيز التعاون العدلي بين السعودية وهونغ كونغ    مكافحة إدمان الطلاب للجوال بحصص إضافية    وزارة البيئة والمياه والزراعة وجولات غير مسبوقة    أضغاث أحلام    الدرعية تكشف تفاصيل مشروع الزلال    تأثير الحياة على الثقافة والأدب    وزير الدفاع ونظيره البريطاني يبحثان التعاون والتطورات    وزير الدفاع ونظيره البريطاني يستعرضان هاتفيا العلاقات الاستراتيجية بين البلدين    إشادة عالمية بإدارة الحشود ( 1 2 )    المجمع الفقهي والقضايا المعاصرة    دورة حياة جديدة    أمير تبوك: عهد الملك سلمان زاهر بالنهضة الشاملة    حضور قوي للصناعات السعودية في الأسواق العالمية    طريقة عمل ديناميت شرمب    طريقة عمل كرات الترافل بنكهة الليمون    طريقة عمل مهلبية الكريمة بالمستكه وماء الورد    أتعبني فراقك يا محمد !    أمير الشرقية يرعى تخريج الدفعة 45 من طلبة جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل    متى تصبح «شنغن» إلكترونية !    أمانة المدينة تطرح فرصة استثمارية لإنشاء مدينة تشليح    عبدالعزيز بن سعد يناقش مستقبل التنمية والتطوير بحائل    الشورى يدعو «منشآت» لدراسة تمكين موظفي الجهات الحكومية من ريادة الأعمال    مجلس الشيوخ الأمريكي يمرر حزمة مساعدات أوكرانيا    الشرطة تقتل رجلاً مسلحاً في جامعة ألمانية    سورية.. الميدان الحقيقي للصراع الإيراني الإسرائيلي    سعود بن نايف يشدد على تعريف الأجيال بالمقومات التراثية للمملكة    محافظ الأحساء يكرم الفائزين بجوائز "قبس"    مركز التواصل الحكومي.. ضرورة تحققت    أخضر تحت 23 يستعد لأوزباكستان ويستبعد مران    مهمة صعبة لليفربول في (ديربي ميرسيسايد)    أمير الرياض يستقبل عددًا من أصحاب السمو والفضيلة وأهالي المنطقة    العين الإماراتي إلى نهائي دوري أبطال آسيا والهلال يودّع المسابقة    الإعلام والنمطية    دور السعودية في مساندة الدول العربية ونصرة الدين الإسلامي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القرن العشرون في علاماته ومغامراته الانعطافية . عصر الصورة : من قمر جورج ميلياس الى انترنيت بيل كلينتون 9
نشر في الحياة يوم 24 - 01 - 2000

لم يسبق للصورة أن شغلت زمناً وأمماً مثلما شغلت الصورة أمم العالم في القرن العشرين. لقد حضرت الصورة، سينمائية ثم تلفزيونية ثم عبر الانترنيت، بشكل يجعل في امكاننا ان نسمي هذا القرن، أيضاً، عصر الصورة بامتياز. وبشكل يجعلنا نتساءل عما ستكون عليه الصورة في العصر المقبل.
خلال الأعوام الأولى للقرن العشرين، كان لا بد لفن السينما أن يخطو خطوة جديدة وكبيرة بعد سنوات من العرض "السينمائي" الأول الذي قدمه الاخوان لوميار في باريس. تقنياً كان عرض الاخوين لوميار بداية لعصر السينما. ولكن كان لا يزال على السينما أن تتحول الى فن. وهذا التحول الى فن لم يكن ليخطر في بال أحد في ذلك الحين، رغم وضوح الامكانات. فالكاميرا كانت تصور ما يحدث أمامها، ولئن فكر أحد بأن "يهندس" هذا الذي يجري، فإن تلك "الهندسة" لم تكن لتخرج عن اطار الواقع المرصود، أو تصوير شخصيات تتحرك وتقول كلاماً. كانت الكاميرا أقرب الى أن تكون بديلاً ثابتاً لعيني متفرج وهمي ثابت في مكانه.
ثم أتى جورج ميلياس، الفرنسي، وحقق "أول فيلم خيال علمي" في التاريخ: "رحلة الى القمر" عن رواية جول فيرن، فكانت النقلة النوعية لفن الصورة المتحركة. وكانت البداية الحقيقية لما سوف يطلق عليه لاحقاً اسم "الفن السابع". ومنذ تلك اللحظة، بصورة أكثر عمومية ودقة في آن معاً، دخل العالم "عصر الصورة". والقرن العشرون، عبر هذا العصر ملتصقاً به، مكيفاً له متكيفاً به. اذن، منذ صورة الصاروخ الساذج الواصل الى سطح القمر في فيلم ميلياس، وصولاً الى صور "الانترنيت" التي كان الرئيس الأميركي كلينتون اعلن عن ولادتها قبل سنوات، وسط اعجاب العالم، ها هي اليوم تصبح جزءاً، يكاد يصبح عادياً وطبيعياً من حياة البشر.
"عصر الصورة" وبامتياز، كان القرن العشرون الذي يعيش الآن غروبه الأخير. تلك الصورة التي عبرت من كونها العنصر الجوهري في الفيلم السينمائي، الى كونها العنصر الجوهري على شاشة الانترنيت والحاسوب، مروراً، بالصورة الصحافية التي رغم وجودها خلال النصف الثاني من القرن السابق، عرفت في القرن العشرين، بدورها، تطوراً حاسماً، ثم الصورة المتلفزة والصورة عن طريق الفيديو، وصورة الاعلان في شوارع المدن وساحاتها.
الصورة... في كل مكان، وعلى شتى الأشكال. الصورة كواقع جديد، كمعطى بديل للحياة نفسها، كرمز وكفاعل أساسي في خلق طبيعة ثانية للانسان.
الصورة تولد من جديد
والحقيقة ان بيكاسو لم يكن مخطئاً، حين تنبه منذ بدايات "عصر الصورة" الى أن انبعاث الصورة على شتى اشكالها "سوف يحدث تبديلاً جذرياً في مفهوم الرسم نفسه". اذ مع الحضور الكلي للصورة كتسجيل للواقع، ما الذي كان يمكن، بعد، للوحات الواقعية، والانطباعية أو غيرها من الفنون "التصويرية" أن تفعله في مخيلة البشر؟ اذاً، من هنا حتى نعزو ولادة التكعيبية والتجريدية والسوريالية وغيرها من الفنون، الى انتشار الصورة "الطبيعية" خطوة يمكن للمرء أن يخطوها باطمئنان.
ومهما يكن في الأمر فإننا حين نتحدث عن الصورة وانتشارها في القرن العشرين، لا بد أن نشير الى اننا نتحدث أولاً، عن السينما. فالسينما هي الأم الشرعية لفنون الصورة.
ولئن كانت السينما عرفت ابتعاثها "الفني" الأول على يدي الفرنسي جورج ميلياس، فإنها سرعان ما انتشرت، وكان من أبرز الذين تلقفوها، الأميركيون الذين سرعان ما حولوها الى سلعة رابحة عبر ألوف الشرائط التي راحت تصوّر، قصيرة ومتوسطة وطويلة، هزلية أو درامية أو بوليسية. كان ذلك هو زمن التأسيس، يوم لم يكن قد عرف، البعد الايديولوجي الممكن للسينما، ذلك البعد الذي سوف يجعل من لينين وهتلر، ومن ستالين وموسوليني "رواداً أصيلين في عالم انتشار السينما". وفي هذا الصدد لا بد من الاشارة الى الدور الأساسي الذي لعبه الأميركي غريفيث، فهو حين حقق فيلمه الأكبر والأشهر "مولد أمة"، وضع فيه كل تلك الأسس والعناصر التي سوف تهيمن على الفن السينمائي لاحقاً: الكاميرا المتحركة لإضفاء طابع فكري على اللقطة، البعد الايديولوجي عبر علاقة الشكل بالمضمون... الخ. والحال أن غريفيث اخترع، في طريقه، السينما كفكر بعدما كان ميلياس اخترعها كفن.
غير أن غريفيث لم ينطلق، بالطبع، من أرض فراغ... كان يواكبه وسبقه، وأحياناً لحقه، عدد كبير من سينمائيين مدهشين، اشتغلوا في ايطاليا وفي المانيا، في فرنسا وفي روسيا... ومع هؤلاء، في تيارات انطباعية وتعبيرية وواقعية، ولدت السينما وراحت تجتذب جمهورها، جمهوراً عريضاً ذهب الى الصالات أولا لدهشته أمام صور تتحرك - كالحياة بالواسطة - أمام عينيه، ثم لافتتانه بالحكايات التي راحت تروى له ببساطة خلال حيز ضيق من الوقت، وبعد ذلك لافتتانه بشيء جديد لم يكن قد سبق للبشرية أن عرفته من قبل: النجوم.
فالحال أن السينما وهي تخلق نفسها في ساعات فجرها الأول، خلقت جمهورها ونجومها في الآن عينه. ولئن كانت الأمم الأخرى غير الأميركية قد راحت تتفنن في اضفاء طابع "فني" و"فكري" على ذلك الفن الجديد، وراحت تبتكر من أجله أدوات تحليل جديدة، تضع فن الصورة في مكانه، وتحاول أن تبحث عن علاقة بين السينما والمسرح، بين السينما والشعر، بين السينما والأدب والموسيقى وعلم الاجتماع وما الى ذلك، كان الأميركيون، على عادتهم التي لا يتخلون عنها أبداً، ينتجون السينما، تاركين لغيرهم أمر بحثها والامعان في ذلك! بالنسبة الى الأميركيين، كان المهم ايجاد الأفلام واعطاء هذا العمل تواصلاً. كانوا يعرفون أن المطلوب هو "خلق العادة" لدى ملايين المتفرجين. ومن هنا راحت الابتكارات الأميركية العملية تتتالى: نظام النجوم وكان شارلي شابلن وجماعته، ودوغلاس فيربانكس وتيدا باراوماري بيكفورد والشقيقتان غيش من أول أبطاله، الأنواع السينمائية الكوميديا، رعاة البقر، الفيلم البوليسي، السينما التاريخية، الشرائط المرتبطة بتاريخ الأديان، وصولاً لاحقاً الى الكوميديا الموسيقية التي لم يكن بامكانها ان تقوم لولا اضافة الصوت الى الصورة، العروض المنتظمة حيث راحت الصالات تنتشر في المدن والبلدات كلها، وما تبع ذلك من تنظيم للتوزيع...
على ذلك النحو خلق الأميركيون السينما، بعد ان خلق الأوروبيون الفيلم.
ومنذ ذلك الحين وحتى نهاية القرن سوف يظل الأميركيون أصحاب السينما المميزين. وسوف يظل الفيلم الأميركي سيد السينما دون منازع.
ومع هذا، خلال عصر السينما الصامتة، يوم لم تكن السينما بحاجة الى لغة مخاطبة، عرفت بعض الأفلام الايطالية التاريخية "ليالي كابيريا" مثلا وبعض الأفلام الألمانية المرعبة "نوسفراتو" و"عيادة الدكتور كاليغاري" وبعض الأفلام الفرنسية والروسية الواقعية، كيف تفرض حضورها منافسة حقيقية للسينما الأميركية. كما أن امماً عديدة بدأت تنتج سينماها في تلك السنوات الشجاعة، فمن الهند الى المكسيك، ومن اليابان الى بلدان الشمال الأوروبي، انتشر الانتاج السينمائي بشكل لم يسبق ان طاول أي فن في تاريخ البشرية على الاطلاق. وبسرعة صار ارتياد السينما عادة اسبوعية متأصلة لدى العديد من الشعوب.
غير أن تلك العادة سرعان ما أفادت الفيلم الأميركي، اضافة الى أفلام أمم قليلة العدد الهند والمكسيك لأن التعود خلق حاجة الى وفرة في الانتاج، لم يكن بإمكان أحد أن يلبيها كما لبتها السينما الأميركية. وهكذا ما أن حلت نهاية سنوات الثلاثين حتى كان الفيلم الأميركي قد استأثر بالجزء الأكبر من المتفرجين.
وإذا قلنا الفيلم الأميركي سنقول الحلم الأميركي، اذ أن هذا الحلم هو الذي خلق ذلك الفيلم على شاكلته، كما أن هذا الأخير عاد وكيّف الحلم تدريجاً في لعبة جدلية لم تنته فصولا...
بيد أن هذا لا يكفي وحده لتفسير نجاح السينما الأميركية. اذ ان هناك عنصراً آخر وأساسياً لا بد من التنبه اليه، وهو أن الولايات المتحدة شكلت، على الصعيد العالمي نقطة استقطاب واجتذاب لأعداد كبيرة من ابناء الشعوب الأخرى. ومن بين عشرات ألوف المهاجرين، كان من الطبيعي ان يتحرك نحو العالم الجديد - المفتوح على الاحتمالات كلها - عشرات من المبدعين في شتى المجالات، ولا سيما في مجال السينما. فاليوم إذا تفحصنا أصول العدد الأكبر من السينمائيين من مخرجين وكتاب وتقنيين وحتى ممثلين الذين صنعوا السينما الأميركية منذ ذلك الحين، سوف نكتشف أنهم انما ولدوا وترعرعوا واكتسبوا خبراتهم ورؤاهم في بلدان غير أميركية، معظمها عريق الحضارة متقدم في شتى المجالات الفنية. هؤلاء حملوا معهم حين هاجروا حساسيتهم الفنية وما تراكم لديهم من رؤى وخبرات ومعرفة، أتت لاحقاً كقيمة مضافة الى السينما الأميركية الأصلية. فإذا اضفنا الى هذا أن ثلاث "أقليات" أميركية على الأقل قدمت مساهمات أساسية في فن السينما الأميركي منذ بداياته، وهي "اليهود" و"الزنوج" و"الايطاليون"، سوف ندرك أسباب ذلك الطابع العالمي الذي اتسمت به السينما الأميركية كما قد ندرك ربما حقيقة الحلم الأميركي نفسه. فهذه السينما أتت على شاكلة الولايات المتحدة نفسها: اناء واسعاً تختلط فيه الحضارات والثقافات والحساسيات، لتقدم كلا شاملاً صنعه "العالم" كله وعاد هو بدوره ليصنع هذا العالم. فهل علينا في هذا السياق ان نذكر أسماء شارلي شابلن ودوغلاس سيرك والفريد هتشكوك ومايكل كورتز وانغريد برغمان وغريتا غاربو ومارلين دينريش وبيلي وايلدر وبول موني وجول داسان وعشرات غيرهم من السينمائيين الذين صنعوا السينما الأميركية وصنعوا لها عالميتها، وواحداً من مبررات نجاحها في العالم أجمع. نجاحها؟ بل ايضاً فعاليتها وخاصة فعاليتها. فالواقع ان السينما الأميركية كانت واحدة من سينمات قليلة في تاريخ هذا الفن، عرفت كيف تكيّف متفرجيها، ليس فقط من خلال تعاملهم مع الصورة، بصرياً، بل من خلال اشتغالها على ذهنياتهم وخلق تلك الطبيعة الثانية - التي يمعن علم الاجتماع في الحديث عنها عادة - لديهم. مع الصورة المنتزعة من الفيلم الأميركي تحول الانسان الى "ملتهم للصورة". الصورة التي كانت أولاً بالأسود والأبيض، ثم اكتسبت ألوانها كاملة: ألواناً تفوق ألوان الحياة نفسها قوة وتعبيرية. والصورة التي قدمت للمرة الأولى، على الشاشة، احجاماً للبشر غير احجامهم الحقيقية، فتكبر الوجود الى درجة لامتناهية في اللقطة المكبرة وتصغرها الى الحدود الدنيا في اللقطات العامة. والصورة التي تنتقل بفضل المونتاج واحد من ابتكارات الروسي ايزنشتاين الأساسية ضاربة عرض الحائط بالتتالي الزمني وبالمنطق. ومن بعد الصورة كان هناك الصوت والموسيقى والضجة وما الى ذلك.
كان لا بد لذلك كله من أن يخلق الانسان على شاكلة جديدة ففعل. لكنه في طريقه خلق للانسان علائق اجتماعية جديدة نبعت من عادة حضور السينما. فالسينما فعل جماعي/ اجتماعي. أنت لا تشاهد الفيلم وحدك، حتى ولو قصدت الصالة وحدك. وهذا الواقع جعل صالات السينما مركز التجمع والاستقطاب الأكثر أهمية وانتظامية في معظم بلدان العالم. ومع هذا، حين تطفأ الأنوار ويبدأ عرض الفيلم، تنتفي تلك الحالة الاجتماعية لتحل مكانها فردية مطلقة في مجابهة ما يحدث على الشاشة. وهذا الواقع أدى تدريجاً الى خلق لعبة التماهي بين المتفرج وما يحدث أمامه، ثم - وبشكل طبيعي - بين المتفرج وابطال الفيلم الذين سرعان ما تحولوا الى نجوم. وانبعثت الأساطير الجديدة، التي جعل انبعاثها جورج برنارد شو يقول انه في ما خلق الانسان القديم اساطير من وهم وأوثان من مواد خشبية وصخرية ومعدنية، ها هو الانسان المعاصر يخلق لنفسه أساطير من لحم ودم... وربما كان يصح أن يقول: أساطير من صور. وذلك لأن لعبة التماهي قامت بين المتفرج والصورة... والدور بالتحديد. فغريتا غاربو أو مارلين مونرو أو فاتن حمامة أو سعاد حسني أو شعبانة عزمي في الهند أو بريجيت باردو في فرنسا وصوفيا لورين في ايطاليا، نساء لم يعشقهن المتفرج إلا عبر صورتهن، المرسومة، المتخيلة، والمتوهمة بالأحرى. وربما يصح أن نقول بأن انتشار التلفزة لاحقاً، وحضور النجوم فيها كأشخاص طبيعيين، كان هو ما أدى الى اندثار عبادة النجوم، لأنه أعاد الى هذه الكائنات السامية صفتها الدنيوية.
سينما العرب المصرية
غير أن هذا الواقع كان لا يزال بعيداً حين وصلت السينما الى ذروة عصرها الذهبي في الثلاثينات والأربعينات، أي خلال الحقبة التي، وان ظلت فيها السينما الأميركية مسيطرة، صار لكل أمة سينماها ومن بينها الأمة العربية التي كانت سينماها السينما المصرية. فهذه السينما كانت، بالنسبة الى العالم العربي، ما كانته السينما الأميركية بالنسبة الى العالم ككل: السينما الأم، والكوكب المشع. في ذلك الوقت لم تكن البلدان العربية قد حاولت لتحقق في نهاية الأمر أن تكون لها سينماها. من هنا امتلأت صالات مدنها وقراها بالأفلام المصرية وصار نجوم الغناء المصريون هم هم نجوم الغناء والسينما العرب، وصارت الدراما المصرية دراما العرب، واللهجة المصرية اللهجة المفهومة من قبل الجميع.
والسينما المصرية ربطت، على تلك الشاكلة، المجتمع العربي بالأذهان العربية عموماً. وكان ذلك طبيعياً بالنسبة الى صناعة راحت تنتج في بعض السنوات نحو تسعين فيلماً وأكثر. وهذا ما جعل أنور وجدي ويوسف وهبي، فريد شوقي ومحمود المليجي، اسماعيل ياسين وعبدالسلام النابلسي، وعقيلة راتب وأمينة رزق وفاتن حمامة ومديحة يسري ومريم فخر الدين والعشرات غيرهم، نجوماً تشع في طول العالم العربي وعرضه، نجوماً تداعب الأحلام والمخيلات ويتماهى المتفرجون معها ومع مشاكلها.
وكما هو حال السينما الأميركية التي عرفت محاولات تمرد على واقعها الروتيني المقلوب، منذ بداياتها، عرفت السينما المصرية حالات تمرد أتت على شكل افلام واقعية وذات قضايا تخرج عن السياق المألوف. غير أن تلك المحاولات، على ريادة بعض اقطابها من كمال سليم الى كامل التلمساني، ومن أحمد كامل مرسي، وصولاً الى توفيق صالح ويوسف شاهين وصلاح ابوسيف ثم شادي عبدالسلام، لم يكن في امكانها ان تصل الى غايتها إلا لاحقاً، بعد ثورة الستينات الرائعة على صعيد العالم كله، والا بعد ان برزت التلفزة لتأخذ عن السينما عبء الترفيه الخالص، تاركة لهذه واحداً من اختيارين: اما ان تهبط بأفلامها الى درك ما هو غير مسموح تلفزيونياً، وبالتالي عائلياً وأخلاقياً، واما أن تقدم أعمالاً ذات مستوى، تصنع أصلاً للنخبة... أو لمتفرجين محدودي العدد في أحسن الأحوال.
وهكذا بالتوازي مع ثورة السبعينات والثمانينات في السينما الأميركية، الثورة التي اطلعت جيلاً سينمائياً أكثر جدية سكورسيسي وكوبولا، دي بالما وسبيلبرغ وشرايدر... وآلتمان وغيرهم منبثقاً من التبدل الذي طرأ على الحلم الأميركي بعد فييتنام ووترغيت، ولكن أيضاً من خلال النجاح الفني الذي مثله ظهور "السينما الحرة" في بريطانيا و"سينما نوفو" البرازيلية و"السينما الجديدة" الفرنسية، بعد "الواقعية الجديدة" في ايطاليا، وكذلك انبثاق اساطين في فن السينما كانوا "فلتة الشوط" في بلادهم، مثل الياباني كوروساوا والهندي ساتياجيت راي والسويدي انغمار برغمان، بالتوازي مع تلك الثورة كانت في مصر ثورة "الواقعية الجديدة" التي تلت ظهور عصر الانفتاح الساداتي، مستعيدة أمجاد "القطاع العام" الناصري، ملتقية مع بعض التيارات والأفكار السينمائية العابرة التي طلعت في هذا البلد العربي أو ذاك.
عصر الصورة المقبل
كل هذا يقودنا الى القول إن السينما تبدلت - وبشكل جذري - لكنها لم تمت. فالسينما وقد تحولت الى عنصرها الأصلي والأصيل: الى صورة تشغل يوميات الناس وذهنياتهم، تعيش اليوم عند نهايات هذا القرن حياة جديدة. من ناحية على شكل أفلام تزداد روعة وتركيبية مع الوقت مستفيدة من أحدث الاختراعات في عالم الصورة، كما في عالم الصوت أيضاً. ومن ناحية ثانية على شكل مبتكرات فيلمية وصورية ترتبط بأدوات ايصال الصورة "الجديدة": التلفزة والانترنيت... وما الى ذلك.
اذاً عند نهاية هذا القرن، ما يمكن قوله عن فن القرن العشرين، فن الصورة المتحركة هو أنه يعيش ويتطور ويندفع الى الأمام، وان بدا في بعض الأحيان انه منتكس متراجع، فهو يستعد لانطلاقة جديدة تقول ان القرن المقبل ربما سيكون بدوره ايضاً عصراً للصورة، وبشكل لا يمكن التنبؤ به منذ الآن


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.