هل تريد ان تكسب تسعين ألف دولار على الأقل في السنة، اضافة الى سكن مجاني، وجميع وجبات الطعام، وثلاث اجازات في السنة تقضيها في أي مكان تختاره من العالم، وسفر مجاني بين وطنك ومكان عملك، ورعاية طبية مجانية وتأمين على الحياة؟ ما العمل اذن؟ ببساطة تطهير حقول الألغام في مختلف انحاء العالم. يقول الاميركي بات وارن الذي احترف هذا العمل: "اللغم سلاح أعمى لا صديق له. فالناس يعجبون بالطائرات ويجمعون نماذج السفن الحربية ويشعرون بالانبهار من الصواريخ مثلاً، ولكن ليس هناك من يحب الألغام الأرضية. فهي مصممة للقتل والتشويه لأنه حين يخطو جندي فوق لغم يسارع اثنان آخران على الأقل لانقاذه مما يعرض الثلاثة لنيران العدو". وكان وارن، خبيراً لدى الاسطول الاميركي في تدمير الألغام قبل ان يستقيل عام 1988 كي يؤسس شركته الخاصة لتفكيك الالغام. وعقب انتهاء حرب الخليج منحت الحكومة الكويتية عدداً من عقود تطهير الألغام الى خمس شركات من الولاياتالمتحدة وفرنسا وبريطانيا ومصر وباكستان. وفازت شركة وارن "آر. اس. بي" بالعقد الاميركي فأزالت حوالى 350 الف لغم اضافة الى 3068 شاحنة عراقية وحوالى 2800 طن من المدافع والمعدات العسكرية الأخرى من القطاع المخصص لها. وكان على العاملين معها ان يرفعوا كل لغم باليد ويحملوه الى احدى نقاط التفجير او ابطال مفعوله. وخلال تلك العملية قتل سبعة من الفنيين الخمسين العاملين مع شركة وارن بينما اصيب ثامن بجراح. وفي نسبة القتلى بين أولئك الخمسين ما يوضح سبب ارتفاع رواتب العاملين في هذه المهنة. ويقول وارن ان الفريق البريطاني الذي وصل هناك قبل غيره فقد عشرين قتيلاً بينما بلغت خسائر الفريق الباكستاني سبعة وتسعين. ويقول وارن ان المشكلة في الكويت كانت الرمال التي تحملها الرياح فتغطي الكثير من الألغام ما جعل مهمة العثور عليها صعبة جداً، على رغم توفر الخرائط العراقية لأماكن زراعة تلك الألغام. وكانت هناك مشكلة اخرى هي ان عدداً كبيراً من الألغام كان من الألغام البلاستيكية الرخيصة الثمن ما جعل من الصعب تحرّيها بالأدوات المعدنية الخاصة، مع ان اتفاق جنيف لعام 1946 الخاص بالألغام ينص على ضرورة وجود "طوق معدني" لجميع الالغام بما فيها البلاستيكية. أسوأ من الأسلحة النووية في تموز يوليو الجاري عقد في جنيف مؤتمر دولي للبحث في مشكلة الألغام في العالم حوالى 110 ملايين لغم مزروعة في 62 بلداً ويقول روبرت غيتلي الضابط السابق في الاستخبارات المركزية الاميركية الذي كان بين اعضاء الوفد الاميركي في المؤتمر برئاسة وزير الخارجية السابق سايروس فانس: "تشير آخر الأرقام المتوافرة لدينا، وهي لعام 1993، الى تطهير حوالى ثمانين ألف لغم. لكن العدد كان اكبر في عام 1992". ويرى الكثيرون ان التخلص من الأسلحة النووية اسهل في الواقع من التخلص من الألغام، اذ يحتاج التخلص من الأسلحة النووية الى قرن كامل. لكن التخلص من الألغام يحتاج الى 1375 سنة، حتى ولو لم يزد عددها. ويقول غيتلي: "في عام 1993 زرع حوالى مليونين ونصف المليون لغم. وفي هذا ما يبين هول المشكلة". ويضيف: "قد يبدو للبعض ان أسهل الحلول هو نسف حقول الألغام. لكن هذه الطريقة لا تعني التخلص منها جميعاً لأن بعضها ينتهي في اماكن جديدة الأمر الذي يثير مشاكل فيما بعد. وهناك ايضاً حقول الغام في بلدان مثل انغولا من دون خرائط توضح اماكن زراعة الألغام". ويقول وارن ان البريطانيين يستخدمون طرقاً بدائية لتطهير الألغام التي زرعها الارجنتينيون في جزر فولكلاند حين احتلوها لفترة قصيرة عام 1982. فهم يحيطون حقل الألغام بسياج ثم يحرقون الأرض ويبدأون في الاستماع الى الانفجارات. لكن الطريقة الوحيدة لضمان تدمير الألغام هي تفكيكها أو ابطال مفعولها باليد". وقد أمضى وارن الذي اصبح خبيراً في هذا الميدان بعيد التحاقه بالأسطول عام 1967 السنوات الخمس الأخيرة من خدمته قبل ان يترك الاسطول عام 1988 في تدريب فرق ازالة الالغام في ايطاليا وسويسرا والشرق الأوسط وكمبوديا، حيث توجد حقول ضخمة من الألغام التي زرعها الخمير الحمر. وفي عام 1991 اسس شركته الخاصة لهذه المهمة. الشرق الأوسط امضى وارن سنة ايضاً في تدريب عسكريين كويتيين على تطهير حقول الألغام. وهو يدرب غيرهم الآن على استخدام جهاز فورستر الذي صممه فردريك فورستر للجيش الألماني. وكان عقد وارن في الكويت ينص على رفع "كل معدن" في الأرض. وهذه عملية مستمرة كما يقال "لأنه لا يزال هناك ألغام في البقع النفطية التي نجمت عن احراق آبار النفط حين انسحب العراقيون من الكويت". والألغام ليس من المعدن او البلاستيك فحسب، بل تأخذ اشكالاً مختلفة. فالألغام المضادة للدبابات او العربات تحتاج الى تفجير ضغط كبير، بينما يمكن للألغام المضادة للاشخاص ان تنفجر بأي حركة بسيطة. وهناك ايضاً الألغام "الخاضعة للسيطرة" التي يمكن تفجيرها بالتحكم عن بعد. وأسوأ الألغام بالنسبة الى الخبراء هي الألغام القديمة لأنها تنفجر بسهولة. ويقول وارن في هذا المجال: الألغام البلاستيكية تتردى بسرعة وتفقد قوى الضغط داخلها، ولذا فان تطهير الحقول التي تعود الى عقود من الزمن عملية خطيرة". واكبر حقل للألغام في العالم موجود في المنطقة "المنزوعة السلاح" بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية التي يبلغ طولها 250 كيلومتراً وعرضها 10 كيلومترات، اي بحجم بعض الدول. اما عدد الألغام في هذه المنطقة فهو غير معروف لكنه بالملايين. ويقول وارن ان عددها "يصل الى عدد تلك التي تركت في فيتنام". ومن المرجح ان تدفع كوريا ذات يوم تكاليف تطهير تلك الألغام مثلما فعلت الكويت. اما فيتنام وأنغولا وكمبوديا فمن المؤكد انها ستحتاج الى مساعدة مالية وفنية من الدول الغنية. وما هي التكاليف؟ يقول وارن: "الرواتب التي ادفعها تبدأ بتسعين الف دولار في السنة اضافة الى السكن المجاني وتكاليف المعيشة الأخرى مع ثلاث اجازات سنوية في أي مكان من العالم اضافة الى التأمين الطبي والتأمين على الحياة وتكاليف السفر من الوطن الى مكان العمل". لكن تكاليف التأمين على العاملين في هذا الميدان باهظة؟ ربع مليون دولار في السنة للشخص؟ "هذا تقدير معقول. لكننا ننظر الى المسألة على أساس ان تكاليف ازالة كل لغم تتراوح ما بين 300 و1000 دولار مع ان تكاليف صنعه لا تزيد على عشرين دولاراً. وهذا مرض يزداد انتشاراً كل سنة". ويتفق عضو آخر في الوفد الاميركي الى مؤتمر جنيف مع وارن، اذ يقول الكولونيل مايك وود من قوات العمليات الخاصة: "ان حظر الالغام بصورة كاملة امر غير محتمل. ولكن اذا ما تم فرض حظر على انتاجها فان الولاياتالمتحدة ستقبل ذلك اذا قبلته الدول الأخرى". لكن المراقبين يقولون ان هذا عديم الجدوى لأن اميركا لديها مخزون هائل من الألغام مع انها لا تحتاج الى أي منها للدفاع عنها. ولهذا فان من الامكانات الأكثر واقعية فرض قيود على انتاجها أو انتاج الغام تحيد نفسها بنفسها بعد فترة معينة من الزمن. ويقول الكولونيل وود: "المشكلة هي اننا لا نعرف ما هي الألغام التي انتهى مفعولها في حقول الألغام. ولذا فان التحييد او التدمير الذاتي خطوة ممتازة. وسواء أكان علينا استخدام الضغط الاقتصادي أو أي وسيلة اخرى فانه يجب اخضاع هذا السلاح للسيطرة". وكانت الولاياتالمتحدة حظرت تصدير الألغام قبل ثلاث سنوات. اما الدول الرئيسية المصدرة فهي ايطاليا والصين، وروسيا، مع ان معظم الدول تنتج ما تحتاجه من الغام. وكانت الولاياتالمتحدة تصدر في السابق نسبة ثمانية في المئة من اجمالي حجم السوق العالمية وبشكل رئيسي الى كندا واسرائيل. ويقول وود ان معظم الدول التي لها حدود برية تحتاج الى أنظمة دفاعية عن تلك الحدود، وفي هذا ما يبين اهمية الألغام. ونظراً الى خطورة مشكلة الألغام فان مؤتمر الأسلحة التقليدية الذي سيعقد في فيينا في ايلول سبتمبر المقبل سيبحث مسألة وضع "بروتوكول للألغام الأرضية". وستقدم الولاياتالمتحدة للدول المشتركة في المؤتمر مجموعة من 190 اسطوانة كومبيوتر تصف باسهاب جميع خصائص انواع الألغام الأرضية وهي 675 نوعاً.