الملك عبدالله رجلٌ حِرفَتُه صناعة التاريخ والأمجاد، نذر نفسه لإعادة صياغة هذا الوطن ليلبسه أبهى حلل العصر ويقوده نحو مسار التحديث الصاعد ليعلي هامته بين الأمم. إنها مهمة صعبة ولكن الملك عبدالله رجل المهام الصعبة. وفاؤه للوطن منحه وفاء المواطنين بكل شرائحهم وأطيافهم فَشِربت محبته القلوب وقرّت به العيون. إذا كان الملك عبدالعزيز، طيب الله ثراه، وحّد هذا الوطن جغرافياً فإن الملك عبدالله بن عبدالعزيز يدشن مرحلة جديدة لغرس الولاء الصادق والانتماء الحقيقي، مرحلة ترميم البناء الاجتماعي وإعادة هيكلته وفق أسس حديثة ومفاهيم عصرية ليجعل من هذا الوطن وطناً فيه متسع للجميع والكل فيه سواسية. فهو حريص كل الحرص على كل ما من شأنه أن يزيل الحواجز التقليدية والتقسيمات الاجتماعية التي تفتتنا وتجرح شعورنا الوطني وتعوق تطورنا ومسيرتنا التنموية. وهو حريص أيضاً على أن يخرج المجتمع من عنق زجاجة التخلف الفكري والثقافي ليحث الخطى ويغذ السير نحو التحديث الشامل والأخذ بأسباب الحضارة المتكاملة والتنمية المتوازنة على كل المستويات. إنه ينام ويصحو وكاهله مثقل بهموم الوطن وقضايا المواطنين. ولقد جسد الملك عبدالله هذه المعاني النبيلة والقيم السامية في خطابه التاريخي الذي ألقاه أمام أهالي القصيم في زيارته الأخيرة للمنطقة حينما وجّه نداء للجميع بالترفع عن تقسيم الناس وتصنيفهم، مؤكداً أن ذلك يتعارض مع قواعد الشريعة السمحة ومع متطلبات الوحدة الوطنية. إنه يدعونا إلى أن نخلف وراءنا كل التصنيفات والتقسيمات الفكرية والفئوية والطائفية والطبقية والقبلية والإقليمية التي تنهش جسدنا الاجتماعي. إذا كانت توجيهات الخالق البارئ جل وعلا ألاّ تنابزوا بالألقاب وكذلك توجيهات ولي الأمر بما أوتي من سلطة روحية ومادية، وهي أيضاً سلوكيات وممارسات تتماشى مع الفطرة السليمة والنهج القويم، فإننا ملزمون كمسلمين ومواطنين وبشر أسوياء وأناس عقلاء أن نحترمها ونتقيد بها ونعمل بمقتضاها. هذا التوجيه الكريم هو بمثابة ميثاق شرف علينا أن نلتزم به جميعاً في تخاطبنا وحواراتنا مع بعضنا البعض. لقد أعطى قائدنا الإشارة وعلينا الآن أن ننطلق في هذا الاتجاه، اتجاه التسامح واللين والرفق في تعاملنا مع بعضنا البعض والابتعاد عن التشنج والحدة المستفِزّة في طروحاتنا وحواراتنا. لقد أصبح لزاماً علينا جميعاً في ظل توجيهات قائد مسيرتنا التحديثية أن نتبنّى شعار: ولا تنابزوا بالألقاب، وأن ننبذ التطرف والغلو والتعصب وخطابات التحريض التعبوية والفكر العدائي المتشنج وادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، هذا هو السبيل نحو بث الفكر المنفتح وتغيير البنية الذهنية وإعادة تكوين الشخصية النمطية لنستطيع مسايرة العصر والتكيف مع العالم الحديث الذي يطبق علينا من كل الجهات ويحاصرنا على كل الجبهات. ويصعب جرد الإصلاحات التي تمت حتى هذه اللحظة لكن لعل الحدث الأبرز كان دخول المرأة السعودية معترك الحياة السياسية والترشّح لمناصب عامة ومراكز قيادية. تكريم المرأة واحترامها وصيانة حقوقها ودمجها في الخطط التنموية من المؤشرات الحقيقية على دخولنا عصر الحضارة والمدنية. فالمرأة هي العجلة الأخرى التي تدفع عربة المجتمع إلى الأمام. ومن يصغي بانتباه إلى تصريحات الملك عبدالله في لقاءاته التلفزيونية يدرك أن هذه إحدى القضايا التي تشغل باله ويبحث لها عن مخرج حكيم يحل المشكلة ويتقبله المجتمع. هذا ملك يريد لنا الخير والعزة والرفعة والأمان والرفاهية، لذا فإن من أبسط حقوقه علينا جميعاً أن نخلص له المشورة ونمحضه النصح وأن نصطف وراءه كالبنيان المرصوص نعينه ونعضده على تحمل مسؤوليات النهوض بهذه الأمة. ما يريده منا الملك عبدالله هو أن نسمعه أصواتنا ترتفع لتبارك برنامجه الإصلاحي وتؤيد خطواته التحديثية. المأمول من الجميع أن يقفوا معه ويثقوا في حكمته وسداد رأيه، فهو رجل محنك نافذ البصيرة، ولا أحد يحرص ويسهر على مستقبل هذا البلد ومصلحته وأمنه واستقراره ورخائه مثل حرصه وسهره رعاه الله وأمد في عمره. قلبه ينبض بالإخلاص لهذا الوطن وعروقه يسري فيها حب المواطن. إن الدموع التي فاضت من ناظريه حينما حيّا أبناء شهداء الواجب في حفلة القصيم فيض من حنانه وحبه لوطنه وأبناء وطنه. يمكن للإنسان أن يتصنع البكاء ويتظاهر بالحزن والأسى، ولكن إذا ذرفت الدموع واحمرّت المقلتان فالبكاء صادق والمشاعر صادقة. هذه هي رُؤى الملك عبدالله التي ينقلها لنا ساري في هذا الأوبريت ويسكبها كؤوساً مترعة بسلسبيل الشعر وعذب الكلام. ساري هو أجدر من يستطيع تبليغ هذه الرسالة بحكم قربه من الملك وصلته اللصيقة بما يكنه ضميره الحي من نوايا خيّرة للوطن والمواطنين. ساري ليس إلا صدى يصلنا عبره صوت الملك الذي طالما شنّف آذاننا بكلماته الأبوية الحانية وآراؤه النيّرة ومبادراته الجريئة. رسائل الملك عبدالله في هذا الأوبريت واضحة وعبارات ساري شفافة كالنور رقراقة كالماء، وما علينا إلا أن نستوعبها ونستلهمها ونسير على هديها. تقول الرسالة بصريح العبارة: هذا الوطن ملك الجميع ومسؤولية الجميع. هذه أهزوجة التعمير وحِداء مسيرة التحديث والتطوير. إنها ملحمة البناء وخطة النماء وبرنامج لمستقبل زاهر تلوح تباشيره في الأفق القريب لتمطر خيراً عميماً على الجميع. ومن لهذه المهمة السامية والطموحات السامقة غير صاحب الهمة العالية والرؤية الثاقبة الملك عبدالله بن عبدالعزيز، قامة تعانق النجوم وهامة لا تنحني إلا لخالقها. * أستاذ الإنثربولوجيا في جامعة الملك سعود