في 8/10/2008 أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها العادية القرار الرقم 3 في الدورة 63 أشارت فيه إلى أنه استناداً إلى المادة 15 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، فإنها ترجو المحكمة أن تعطي رأياً استشارياً حول المسألة الآتية: هل يتفق الإعلان من طرف واحد عن استقلال مؤسسات الإدارة الموقتة ذات الحكم الذاتي في كوسوفو، مع القانون الدولي؟ أبلغ الأمين العام للأمم المتحدة هذا القرار إلى المحكمة بتاريخ 9/10/2008 وتم تسجيله لدى مسجل المحكمة في 10/10/2008، والمعلوم أن طلب الرأي الاستشاري مسموح به لخمسة من أجهزة الأممالمتحدة، أي كل أجهزة المنظمة الدولية بما فيها الأمانة العامة، كما أن هذه الرخصة متاحة لست عشرة من مؤسسات منظومة الأممالمتحدة أو وكالاتها المتخصصة، بشرط أن تكون المسائل المطلوب الفتوى فيها ذات طابع قانوني، على أن يترك للمحكمة تحديد اختصاصها في إصدار هذه الفتوى، وفي تحديد مدى توافر الطابع القانونى لهذه المسائل. ويقضي نظام المحكمة بأنه فور تلقيها الطلب تسارع بإعلان بيان بأسماء الدول والمنظمات التى تراها ملائمة لتقديم المعلومات حول الموضوع، وتشرع في تحديد جلسات المرافقة المكتوبة أو الشفوية. وتفيد المحكمة نفسها عادة في مثل هذه المناسبات أن الرأي الاستشاري ليست له قوة إلزامية، بخلاف الأحكام، لكن سلطة المحكمة تقف وراء هذا الرأي، باعتبارها الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة. وأصدرت المحكمة منذ عام 1946 خمسة وعشرين رأياً استشارياً، آخرها المتعلق بقضية الجدار العازل الذي تقيمه إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 2004، وهو الرأي الوحيد الذي استخفت به إسرائيل والولاياتالمتحدة. من المعلوم أن المحكمة ستستمع إلى تاريخ المشكلة وآراء الخبراء، خصوصاً أن كوسوفو حظيت باعتراف حوالى 50 دولة في مقدمها الولاياتالمتحدة والدول الأوروبية الكبرى والدول المجاورة. وستلاحظ المحكمة جوانب القضية كافة، وأهمها أن كوسوفو كانت تابعة للاتحاد اليوغوسلافي وليست تابعة لصربيا وأن وراثة صربيا الاتحاد اليوغوسلافي ليست تفويضاً لها بإبادة شعب كوسوفو، الأمر الذي أدى إلى تدخل حلف الناتو عام 1999 ثم الإصرار على فصل كوسوفو عن صربيا. ستلاحظ المحكمة أيضاً أن مارتي اهتيساري رئيس فنلندا السابق ومفوض الأممالمتحدة في قضية كوسوفو حصل يوم تحويل الملف إلى المحكمة على جائزة نوبل للسلام والذي كان من حيثياته أنه مهندس استقلال كوسوفو. وستهتم المحكمة اهتماماً خاصاً بنقطة مفصلية هي: هل كان الاستقلال من طرف واحد، على رغم انه اقتراح من جانب الأممالمتحدة تسانده القوى الرئيسية عدا روسيا والصين، يمكن أن يكون خروجاً على المبدأ المستقر وهو المحافظة على الوحدة الإقليمية للدول، خصوصاً أن صربيا تحارب هذه الخطوة وتتمسك بوحدة أراضيها حتى الآن؟ أم أن وقائع أو تفاصيل العلاقة بين كوسوفو وصربيا تجعل الانفصال والاستقلال أمراً مقبولاً بل حلاً جذرياً وتجنيباً لكيانين مختلفين متناقضين، كما الحال عندما تم تقسيم شبه القارة الهندية بين المسلمين والهندوس؟ وستبحث المحكمة أيضاً بعد استعراض مبادئ القانون الدولي المتعلقة بالتدخل الإنساني والاستقلال السياسي للدول والسيادة والوحدة الإقليمية والسلامة الإقليمية، مدى اعتبار استقلال كوسوفو سابقة طيبة أو سيئة، علماً أن السوابق التاريخية في إعلان الاستقلال كانت تواجه دائماً بموقف دولي صارم حفاظاً على المبدأ الجوهري في العلاقات الدولية منذ صلح وستفاليا، ومثال ذلك الإعلان من طرف واحد لاستقلال مسلمي قبرص الشمالية، واستقلال الأقلية البيضاء في روديسيا الجنوبية زيمبابوي الحالية، فضلاً عن حركات الانفصال في شرق نيجيريا وغيرها. ومعنى ذلك أن سياسة المجتمع الدولى لا تزال تصر على أن الدولة هي الوحدة الأساسية في العلاقات الدولية، وأنه لا يجوز أن تتفتت أو يقتطع جزء من إقليمها رغماً عنها. فهل تتمسك المحكمة بعد بحث العلاقة بين كوسوفو وصربيا بأن موافقة صربيا على استقلال كوسوفو هي السبب الوحيد الذي يضفي الشرعية على هذا الاستقلال؟ أم ترى المحكمة أن اعتراف 50 دولة من بينها جمهورية الجبل الأسود التي لا يزيد عدد سكانها على 70 ألف نسمة والتي وافقت صربيا على خروجها من الاتحاد معها واستقلالها العام 2007 يظهر أن تمسك صربيا بكوسوفو لم يعد له أساس أخلاقي وأنه لا يعني سوى استمرار تسلط عرق ودين وثقافة على مجموعة تختلف تماماً في كل ذلك عن الصرب، وأنه آن الأوان لتحريرها لكي يستقيم تاريخها المستقل مع طموحات شعبها، خصوصاً أن القانون الدولي يعلق أهمية خاصة على مبدأ ألا يحكم شعبٌ شعباً آخر رغم إرادته، وأن الاستفتاءات كافة التي كانت تؤيد منح الإقليم استقلاله في سياق حرية اختيار الشعب لنظامه السياسي ومستقبل بلاده، واختار أهالي كوسوفو البالغ عددهم مليونين من السكان يشكلون 95 في المئة من سكان الإقليم بالمقارنة بثمانية ملايين هم سكان صربيا، أن يستقلوا، وأنه آن الآوان لهذه العلاقة التاريخية الحافلة بالمشاكل أن تنتهي لعل الحياة الجديدة تؤدي إلى رؤية جديدة لعلاقات التعاون والاستقرار بين الشعبين؟ نعتقد أن المحكمة ستجد نفسها في موقف عسير، فهي لا تريد أن تفرّط بسهولة في مبدأ وحدة الدولة وعدم اقتطاع أجزاء منها من دون إرادتها، لئلا تكون سابقة خطيرة تفسر بأشكال مختلفة على نطاق واسع، وبين الميل إلى رغبة السكان في الإقليم وتاريخ العلاقة بينهم وبين الصرب. والجدير ذكره أن المحكمة وهي تركز على الجوانب القانونية في هذا الامتحان العسير تدرك الخلفيات السياسية والصراع بين روسياوالولاياتالمتحدة، وأن قرارها في هذا الموضوع سيقضي على الحجج السياسية الأخرى المعارضة. فإذا قررت أن استقلال كوسوفو يناقض أحكام القانون الدولي، فإن عمل الأممالمتحدة والدول الرئيسية الأخرى في هذا الاتجاه سيكون غير مشروع ومحاولة لهدم القانون الدولي القائم، وهذا من المحظورات المفهومة والتي لا بد للمحكمة وهي تزن كل العوامل أن تتوقف عندها. أما إن قررت المحكمة أن إعلان الاستقلال يطابق أحكام القانون الدولي ويستجيب حق شعب كوسوفو في تقرير مصيره، وهو من الحقوق الثابتة في القانون الدولي، فإن هذا الرأي سيضفي المشروعية على كل خطوات دعم هذا الاستقلال ويبقي للدول غير المعترفة بكوسوفو المساحة المعترف بها قانوناً، وهي أن قرار الاعتراف أو عدم الاعتراف قرار سياسي يرتبط أساساً بإرادة الدولة ومطلق سيادتها ولا يمكن أن ترغم دولة على الاعتراف بغيرها، ولكن يمكن أن تلزم دولة بعدم الاعتراف بدولة أخرى حظر مجلس الأمن الاعتراف بها كما حدث في الحالات التي أعلن فيها الاستقلال من طرف واحد والتي أشرنا إليها من قبل. أخيراً، فإن صدور قرار من الجمعية العامة بهذه الغالبية الصغيرة بطلب الرأي الاستشاري وامتناع عدد مساو تقريباً من الدول عن التصويت يعكس انقسام المجتمع الدولي في شكل متساو أيضاً بين المصالح والمبدأ، كما أن صدور القرار يعتبر تعويضاً لصربيا عما تشعر به من قهر بعد إعلان كوسوفو في شباط فبراير 2008 استقلالها، ولكن يخشى أن تحال على محكمة العدل الدولية قضايا مماثلة في شكلها ومختلفة في حيثياتها مثل إعلان استقلال أبخازيا في جورجيا واستقلال اوسيتيا الجنوبية، وربما أدى قرار المحكمة لمصلحة كوسوفو إلى أن تكسب روسيا الجولة السياسية ضد جورجيا، أما قرارها السلبي فسيكون مزدوج الأثر لدى روسياوالولاياتالمتحدة كما هو واضح بالنسبة الى السوابق الأخرى. ومن المفيد الإشارة إلى أثر القرار الذي تصدره المحكمة على سلوك الدول غير المعترفة، وقد أشرنا إلى أن الموقف من الاعتراف لا تحكمه فقط اعتبارات قانونية لكن قرار تأييد الاستقلال سيكون دعماً نهائياً لمشروعية كوسوفو في المحافل الدولية، كما أن قرار إدانة الاعتراف سيكون عبئاً على مشروعية هذه الدولة الوليدة. * كاتب مصري