لم تكن كفتا السلام والحرب متعادلتين في تاريخ أزمات الصراع العربي الإسرائيلي مثلما هما في اللحظة الراهنة. فقد ظلت كفة السلام غائبة على مدى نحو ربع قرن بين حربي 1948 و1973، وأصبحت العلاقة، بعد ذلك، بين كفتي الحرب والسلام متذبذبة، خصوصاً بعد أن أحدث السلام المصري - الإسرائيلي 1978-1979 تغييراً في المعادلات وفي طابع الميزان نفسه أيضاً. فلم يعد لهذا الميزان كفتان فقط، لأن تذبذب العلاقة بينهما خلق حالة ثالثة ظهرت إرهاصاتها قبل حرب 1973، وهي"اللاسلم واللاحرب". وهكذا، فبعد أن بدت كفة السلام راجحة في النصف الثاني من السبعينات، طغت كفة الحرب في النصف الأول من العقد التالي، قبل أن تسود في نصفه الثاني حالة لا حرب ولا سلم لم تلبث أن أفسحت المجال لانتعاش الأمل في السلام الذي رجحت كفته في النصف الأول من التسعينات ثم أخذ ينحسر إلى أن تبدد في العام 2000، فبدت كفة الحرب هي الراجحة مجدداً لفترة قصيرة دخلت المنطقة بعدها في مرحلة جديدة شعارها الحرب على الإرهاب وميدانها الأول أفغانستان ثم العراق. ومن بين جديد هذه المرحلة الجديدة تداخل متزايد بين الحرب على الإرهاب وصراعات المنطقة، بما فيها الصراع العربي - الإسرائيلي الآخذة معادلاته في التغير باتجاه ارتباط تفاعلاته بتلك الحرب التي ستبقي المنطقة أسيرة لها حتى إذا تولت إدارة ديموقراطية الحكم في واشنطن في مطلع العام 2009 خلفاً لإدارة بوش. ومن هذا المنظار، كانت حرب الصيف الماضي محطة ثالثة في الحرب على الإرهاب، وموقعة أولى في حروب الصراع العربي - الإسرائيلي المرتبطة بهذه الحرب الكونية نظرياً مثلما كانت حربا 1914-1918 و1939-1945 الأوروبيتان في جوهرهما عالميتين. فالحرب على الإرهاب هي شرق أوسطية فعلياً إلا من شظايا تتناثر هنا وهناك على امتداد الكوكب. غير أن ارتباط الصراع العربي - الإسرائيلي بالحرب على الإرهاب، على هذا النحو، لا يعني بالضرورة رجحان كفة التفاعلات العسكرية بين أطراف ذلك الصراع، وخصوصا في ظل الإخفاق الذي منيت به تلك الحرب في ميدانها الرئيسي الراهن العراق وانعكاساته على مسارها وعلى الأوضاع في المنطقة. فقد أعطى هذا الإخفاق فرصة جديدة لتداول مجادلة قديمة حفل بها الخطاب السياسي العربي، الرسمي وغير الرسمي على حد سواء، وهي أن الصراع العربي - الإسرائيلي هو المصدر الأول للإخفاق والتوتر في المنطقة، وبالتالي للغضب الذي يمكن أن يتحول إرهاباً. وعلى رغم أن هذه مجادلة لا تروق للاتجاه السائد في إدارة بوش، واتجاهات أميركية أخرى أيضا، كان على"البراغماتيين"في هذه الإدارة أن يتفاعلوا معها نظرياً، في مقابل التزام دول عربية تعنيهم بجهد أكبر في مساعدتهم للخروج من مأزقهم في العراق. ولذلك أخذت المسألة الفلسطينية تحظى بمساحة أكبر في جدول الأعمال الأميركي خلال الشهور الأخيرة، وفي زيارات كوندوليزا رايس إلى المنطقة. وازدادت اللقاءات بين رئيس الوزراء الإسرائيلي ورئيس السلطة الفلسطينية، في الوقت الذي أسفرت قمة الرياض الأخيرة عما بدا كما لو أنه"هجوم سلام عربي"جديد، فيما استؤنف الحديث عن السلام في الخطابين الرسميين السوري والإسرائيلي، وحضر رجل الأعمال الأميركي من أصل سوري الدكتور إبراهيم سليمان اجتماعاً مهماً للجنة العلاقات الخارجية والأمن القومي في الكنيست في 12 نيسان ابريل الماضي لمناقشة ما أنجزته القناة غير الرسمية التي جمعته والمدير العام السابق للخارجية الإسرائيلية الدكتور آلون لييل باعتبارهما ممثلين للموقفين السوري والإسرائيلي. وإذا صح أن هذه القناة الخلفية أنجزت أكثر من 80 في المئة من عناصر اتفاق نهائي بين سورية وإسرائيل، على نحو ما أكده سليمان ولييل أمام لجنة الكنيست، فهذا يعنى أن هناك أساساً للسلام لم يتوفر مثله منذ التوافق المبدئي الذي حدث قبيل اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي اسحق رابين. غير أن هذا الأساس يظل غير قابل للبناء عليه لأن استعداد إدارة بوش لتحريك الجهود السلمية يقتصر على المسألة الفلسطينية ولا يشمل المسار السوري - الإسرائيلي على رغم أن الفجوة بين طرفيه على صعيد قضايا المفاوضات الثنائية من دون غيرها أضيق منها بين إسرائيل والفلسطينيين. فمشكلة بحيرة طبريا أقل صعوبة، وربما بكثير، من معضلتي القدس القديمة واللاجئين. كما أن الارتباط بين القرار السوري وإيران يخلق وضعاً أقل تعقيداً مقارنة بتغييب القرار الفلسطيني في خضم الصراع بين مشروعي"فتح"و"حماس". غير أن إستراتيجية إدارة بوش، التي تشمل سعياً إلى عزل دمشق إقليمياً وليس فقط دولياً، تضع خطاً أحمر على تحريك المسار التفاوضي السوري - الإسرائيلي وتعتبره سيناريو وهمياً يمكن أن يستغله الجانب السوري في"مناوراته الإقليمية". لذلك، فبين معضلات هائلة أمام إحراز تقدم في الاتصالات الفلسطينية - الإسرائيلية على رغم وتيرتها المتسارعة، وصعوبات مانعة لإجراء اتصالات سورية إسرائيلية لإعادة تأسيس المسار التفاوضي، يبدو السلام بعيداً بالرغم من حضوره في المداولات الإقليمية والدولية بمعدلات لا سابق لها منذ انهيار قمة كامب ديفيد الثانية في صيف العام 2000. غير أن الحرب لا تبدو، بدورها، خياراً لأي من أطراف الصراع العربي - الإسرائيلي في اللحظة الراهنة. فهذه الأطراف، التي يمكن أن تكون مرشحة لخوض حرب، منهكة ومضطربة، بدءاً من إسرائيل وصولاً إلى"حزب الله"وحركة"حماس"مروراً بسورية. فلا مصلحة لكل من إسرائيل و"حزب الله"في حرب جديدة. ربما تكون إسرائيل معنية باستعادة مكانتها الردعية التي أضعفتها حرب الصيف الماضي. وقد ينظر"حزب الله"إلى أي اشتباك ضد إسرائيل باعتباره رصيداً له ولتحالف 8 آذار في الصراع اللبناني الداخلي. فما زالت مواجهة إسرائيل تفعل فعل السحر في التوازنات الداخلية في لبنان وبلاد عربية أخرى. ولكن إذا كانت الحرب طريقاً لاستعادة مكانة إسرائيل الردعية، فهي قد تكون سبيلاً إلى القضاء على هذه المكانة إذا جاءت على نسق حرب 2006. كما أن الحرب التي قد تزيد رصيد"حزب الله"يمكن، أيضاً، أن تسحب منه وقد تنتهي بإفلاسه، إذا عجز عن الصمود فيها. والحال أنه ليس في إمكان هذا أو تلك ضمان المسار الذي يمكن أن تأخذه حرب جديدة، ناهيك عن الاطمئنان مسبقاً إلى نتائجها. أما"حماس"فهي الآن في مرحلة تثبيت مكاسب داخلية راكمتها خلال"حرب الانتفاضة"، وتحجيم الخسائر التي قد يكون عليها أن تتكبدها من جراء"الحرب على السلطة". والأرجح أن هذه الخسائر ستكون محدودة على نحو لا يجعل خيار"حرب انتفاضة"جديدة ضرورياً لتعويضها لأن سوء أداء غريمتها الرئيسية"فتح"يكفل التعويض. تبقى سورية التي لم تكن الحرب خياراً لها على مدى أكثر من ثلاثة عقود. وهي لا يمكن أن تصبح خياراً في وقت تبدو فيه دمشق مرتاحة إلى إخفاق المشروع الأميركي في العراق وفشل محاولات عزلها. ولذلك لا تبدو مطروحة الآن الحرب بين أي من أطراف الصراع العربي - الإسرائيلي لأغراض تتعلق بهذا الصراع أو بتلك الأطراف. ولكنها تبدو، في المقابل، واردة في إطار أوسع من الصراع العربي - الإسرائيلي، وضمن ديناميكيات الصراع على المنطقة بين المشروعين الأميركي والإيراني وعلاقتها بهذه الأزمة أو تلك من الأزمات الساخنة المسدودة آفاقها، وخصوصاً الأزمة اللبنانية. فقد لا تبقى الحرب بعيدة بين إسرائيل وأي من سورية أو"حزب الله"أو"حماس"وقوى فلسطينية أخرى، أو هذه الأطراف مجتمعة، في حالة اعتماد الخيار العسكري ضد إيران، أو في حالة اقتتال لبناني داخلي، أو في الحالتين معاً. وقد يكون حجم الدمار المتوقع في هذه الحرب إذا نشبت سبباً لإبعادها، مثلما قد يكون حجم التنازلات المتبادلة المطلوبة من أطراف الصراع العربي - الإسرائيلي مانعاً للسلام. فالحرب المقبلة، إذا وقعت، قد تكون الأكثر تدميراً في تاريخ الشرق الأوسط الحديث، لأنها حرب على هويته وصورته المقبلة. والسلام يقتضي بدوره، هذه المرة، تسوية تاريخية ترسم، بين ما ترسمه، صورة الشرق الأوسط المقبلة وليس فقط خريطة الحدود هنا وهناك.