عززت الدورة 68 لمهرجان برلين السينمائي وجوائزها، فضيلته كواحد من أهم المنصات السينمائية العالمية في مجال اكتشاف المواهب وإتاحته لها فرصة المشاركة في كبريات مسابقاته، ورسخت أيضاً الانطباع المبكر عنه، كونه مهرجاناً منحازاً بوعي إلى الطليعية وحتى التجريب مع تمسكه الشديد في الوقت ذاته ب «شعبيته» الكبيرة. تجدد الدورة الأخيرة جميع تلك الخصال وتجليها، بدءاً من اختيارها فيلم تحريك لتدشين أعمالها وضمه إلى مسابقتها الرئيسية، وزاد على ذلك منح لجنة تحكيمها المخرج ويس أندرسون جائزة الدب الفضي لأفضل إخراج مع شدة صعوبة حسم تقويم عمل تحريك. وعلى رغم ذلك، مضت اللجنة ورئيسها توم تكوير في توزيع الجوائز وفق رؤيتها، متجاوزة التوقعات بأنه ربما سيميل إلى ألمانيته ويعطي بعض المتنافس منها على قطعة من «كعكته»، أما المفارقة المؤلمة هنا فتتجسد بحرمانه فيلم توماس ستوبر «بين الممرات» منها، مع أنه من بين أفضل الأفلام المعروضة وبإجماع غالبية النقاد بمن فيهم الذين ظلوا طيلة الأيام الأولى يربطون بين «ضعف» المسابقة واقتراب نهاية عمل مدير المهرجان ديتر كوسليك الوشيكة، متناسين مساهمته الشخصية في تطوير المهرجان، وأيضاً كونه يعمل في مؤسسة وازنة الحضور يقترب عمرها من العقد السابع وتعمل وفق آليات محكمة لا يؤثر كثيراً منصب الرئيس فيها إلا بمقدار توجهاته الفكرية، وعملياً كوسليك ليس ببعيد من فهم ما اختطه سابقوه وتعزيزهم اختلاف «برليناله» عن غيره من المهرجانات الكبيرة. شرق أوروبا... طليعياً ليس أدلّ على ذلك الفهم من اختباره فيلم الرومانية أدينا بينتيلي «لا تلمسني» ضمن المسابقة الرسمية، ناهيك بفوزه بجائزة الدب الذهبي، ما يشير إلى جرأته وإقدامه على الإتيان بكل ما هو خاص وشجاع بغض النظر عن مصدره أو طول تجربة صاحبه. فهذا الفيلم هو عملها الطويل الأول وهو ليس قصيراً ولا وثائقياً متوسطاً كبقية أعمالها، بل يقترب من حقول الديكودراما والتجريبي الشخصي وأهميته تكمن في فكرته ورؤية مخرجته إلى موضوع فلسفي - راجع مكاناً آخر في هذه الصفحة - بالتالي، يمكن اعتبار «لا تلمسني» واحدة من المحاولات الشجاعة لتثوير وظيفة الفن وتجاوز الكثير من قواعده. والحال أن منح جائزة «الدب الذهبي» لهذا الفيلم، أضفى على «البرليناله» توهجاً وعزز الانطباع الذي بدأ يترسخ خلال السنوات الأخيرة، بأنه ميال أكثر من غيره إلى منح النساء المخرجات فرصاً إضافية في مسابقاته وكونه يذهب لاكتشاف أوروبا الشرقية بعد أن ظلت أعمالها بعيدة عقوداً بسبب السياسة والصراعات الأيديولوجية قبل نهاية مرحلة الاشتراكية. أما اليوم، فالبرليناله تتسابق لتعويض ما فات صناعها وربما فوز الفيلم الهنغاري؛ «عن الجسد والروح» العام الفائت بجائزته الكبرى يتوافق مع ذلك التوجه ويتساوق نسبياً في معناه مع فوز الرومانية ومعها جارتها البولندية مارالغورزاتا شوموفسكا الحاصلة على جائزة التحكيم الكبرى عن فيلمها «الوجه»، وأقل ما يقال فيه أنه حاول «تفكيك» أكاذيب «الخصوصية البولندية» وراح يفضح تناقضاً مجتمعياً سلوكياً بالدرجة الأولى بدا للكثيرين عسيراً على الفهم كونه يجمع المتنافرات ولا يتعمق في تحليلها أو تبيان مصدرها على المستويين التاريخي والفلسفي؟ ف «المسيحية الشيوعية» كما يصف بعض المفكرين تجربتها تكشف تناقضاً أخلاقياً في عمقها أكثر منه خصوصية أو إرثاً بولندياً تتباهى بجمعه الكنيسة والحزب الشيوعي وعارضت فيه نقاباته العاملية قيادة بلاد رفعت شعار العاملية عالياً. ذلك التناقض غير الخاضع لتحليل سينمائي جريء كان كما يتجلى في مسار حوادث فيلم «الوجه» يخفي نزعة متناقضة وأنانية مخيفة قدمتا فيه بأسلوب كوميدي أسود وفي إطار ميلودراما عرض متنها معنى القوة والضعف في ذلك التكوين المجتمعي الملتبس ولحظة انحياز أفراده إلى الشكلي حين يكون المرء في لحظة خسارته مصادر قوته، في أمس الحاجة إلى تآزر إنساني حقيقي. روح لاتينية الإنجاز الشرق أوروبي اللافت يقابله نهوض أميركي لاتيني، يحمل معه طابعه الخاص ويتقدم إلى المشهد السينمائي الأوروبي محمّلاً بموروث سينمائي وتميّز في طريقة سرد الحكايا، على طول الخط كان حظها في البرليناله وافراً ولا حاجة للعودة إلى تاريخها وما حققته في دوراته لتأكديها؛ فنتائج الدورة الحالية وحدها تكفي للإشارة إليها عبر ذهاب جائزة أفضل ممثلة إلى أنا برون، مؤدية دور «تشيلا» في الفيلم البارغواي/ الأوراغوي المشترك، متجاوزة التوقعات الطموح بفوز الشابة النرويجية أندريا بيرنزين، عن دورها في فيلم «أوتويا، 22 يوليو» والتي في الأحوال كلها فيلمها اللاتيني الروح يظل بين أهم أفلام المسابقة، ويستحق من دون شك جائزة «الفريد باور»، كما استحق المكسيكي مانويل ألكالا جائزة أفضل سيناريو عن نص فيلم مواطنه ألونسو رويسبلاسيوس «المتحف». كل ما في نصه يدعو للإعجاب؛ روح الدعابة فيه، عمقه وقراءته حدثاً واقعياً حوله إلى حكاية سينمائية تلامس العلاقة بين متوارثات حضارة المايا وأحفادها وكيف يدفع الضجر والبحث عن معنى شابين مكسيكيين لسرقة بعض آثارها وتعريضها لخطر ترحيلها إلى المتاحف الأوربية، وعرضا الطالبان المخضرمان خوان وويلسون بفعلتهما حياتهما لهزة كبيرة حين شرعا يسرقان تماثيل قديمة ولقى نادرة من المتحف الوطني للأنثربولوجي ومن بينها قناع الملك باكال الشهير غير المقدر بثمن. المتحف بوصفه مكاناً يعلن عن وجود حضارات عريقة تحت الأرض التي أقيم فوقها، هو أيضاً مصدر إغواء لانتهاك ما في خزائنه من نفائس، كتعبير عن رغبة دفينة في انفصال تاريخي عنها، وعدم اكتراث بما تأسس فوق أرض البلاد التي ينتمون إليها ويريدون في أي شكل الانفصال عنها نحو ذاتية وأحلام غنى سريع. من «المتحف» ستقود التحف سارقيها إلى جولة في طول البلاد وعرضها لتعيد جزءاً من انتماء وإحساس بفداحة ما كان سيضيع في لحظة عجز وشعور طاغ بالمعنى. ذلك الإحساس سيكون مضاعفاً عند المراهق الفرنسي المدمن على المخدرات توماس (لعب دوره الممثل أنتوني جايو ونال عليه جائزة أفضل ممثل) والمرسل إلى مؤسسة مسيحية لإعادة تأهيله، تعيد سؤال الهوية إلى الطرف الآخر من العالم وتعيد معها التشابهات الإنسانية والرغبة في التخلص من الآثام وعيش حياة سوية. فيلم «الصلاة» لم يكن بين أقوى المرشحة للفوز غير أن نيل بطله جائزة التمثيل أعطاه معنى أكبر من قيمته الحقيقة على عكس فيلم «بين الممرات» المستحق أكثر مما خرج به، وحرمانه من الدببة المهمة سيعيد حقيقة كون جوائز أي مهرجان سينمائي ومهما كان كبيراً لا تلغي أهمية الأفلام المحرومة منها، لأنها قد تحصل بسهولة في غيره على ما تستحقه. ومن المؤكد أن «بين الممرات» لن يمر بعد برلين مرور الكرام ولا يمكن الجمهور والنقاد تجاهل أهميته بخاصة في ألمانيا التي قل في مهرجانها هذا العام الأفلام السياسية وفي شكل خاص المنتقدة التجربة النازية مكتفية بأفلام روحها أقرب إلى الفلسفة. ومع هذا أتى الموضوع السياسي من النمسا عبر فيلم المخرجة روث بيكرمان «فالس فالدهايم» الحائز على جائزة الدب الفضي للفيلم الوثائقي، العائد إلى تاريخ الأمين العام للأمم المتحدة السابق كورت فالدهايم، يوم كان منتمياً إلى وحدة من الجيش النازي، وأثناء ترشحه للانتخابات الرئاسية في بلاده عام 1986، تم إيقاظ تاريخه الشخصي لمنعه من تحقيق نصر اعتبره معارضوه تعزيزاً لقيم ظالمة وقف العالم الحر بأجمعه ضدها وينبغي الوقوف في وجهها حين يتقدم أحد من المشاركين فيها لنيل منصب سياسي حساس. الفيلم يعتمد في سرده البصري على المادة الأرشيفية، لكنه محفز آنياً بعناصر الحدث ذاته، بوصفه فعلاً دائماً، فحظر النشاط النازي وفضح المشاركين فيه جزءاً من نشاط اجتمعت البشرية على إبقاء عيونها مفتوحة عليه. أهمية الوثائقي تكمن في طرحه أسئلة حول دور الجنود في الحروب ومقدار صحة إدانتهم بالمستوى ذاته إدانة قادتهم وأيضاً لكشفه رغبة الخصوم في تحويل الصحيح لمصلحتهم الخاصة، مستفيدين من قوة التاريخ ومن نفوذهم السياسي الحالي. أهمية الفيلم الأكبر وعليها أغلب الظن نال الجائزة أنه يُتيح للجميع فرصة عرض مواقفهم وعرض مجريات حوادث واقعية تشير إلى إمكان حضور التاريخ بقوة، في زمن قد يظن من يرغب في تجاهله أنه لن يعود يوماً!