نشأ في قرية باكوس مارش الصغيرة في فكتوريا، ويتذكر «إحدى عجائب الطفولة» في الخمسينات التي يصعب اليوم التخيل أنها أثارت خبلاً جماعياً. يسترجع بيتر كيري في الرابعة والسبعين سباق ريدِكس الذي قسم قلوب الأستراليين بين فورد وهولدن، وسهره حتى الثالثة فجراً مع والديه. كانا وكيلين لشركة جنرال موتورز في القرية، وصمدا بحماسة في محلهما الصغير طوال الليل لمساعدة السائقين والمشاركة في الجنون الوطني. شاهد شريطاً عن السباق بعد عقود ولاحظ أمراً فاته حتى ذلك اليوم. لم يظهر شخص واحد من السكان الأصليين في الأخبار مع أن طريق السباق دارت حول البلاد. أدرك أنه عثر على روايته الرابعة عشرة. يعتقد الروائي الحائز مرتين على جائزة مان بوكر، أنه لم يقابل أحد السكان الأصليين قبل الواحدة والعشرين. قد تكون رمزية النضج فاتته إذ بقي يتجنّبهم روائياً إلى أن حنق من نفسه. يُفترض به الكتابة عن بلاده، وهو يتخيّلها بكل مظاهرها لكنه لم يلمس جوهرها في الواقع طوال حياته. غزاها أجداده، البريطانيون غالباً، وبذلوا جهدهم لمحو السواد بكل الوسائل «وأنت لن تكتب عن ذلك؟ أمر سخيف ومحرج». خلال جولة الترويج لروايته الأخيرة في أستراليا، وقف أشخاص من جيله ليقولوا أنهم نشأوا في مناطق يكرهون العودة اليها لأن أجدادهم البيض جمعوا أولئك السود وقتلوهم جماعياً. زملاء كُتّاب سألوه عن مسؤوليتهم، وعما يجب فعله، ففكر أنه سؤال مضحك لروائي. «بعيداً من الدار» الصادرة في بريطانيا عن دار فيبر تبدأ في باكوس مارش حيث يشارك تيتش وآيرين بوبز في السباق لإثارة الاهتمام بقاعة العرض الجديدة لجنرال موتورز. كان تيتش وكيلها، وأفضل بائع للسيارات في ريف فكتوريا، وأخفى حروق السجائر على ذراعيه دائماً برُدن طويل. وكانت آيرين، الضئيلة الحجم مثله، مرحة، واثقة وسائقة أمهر منه. دعمته في وجه والده المتبجّح الناهر الذي شارك أيضاً في السباق، وأقنعت جارهما ويلي باكهوبر الماهر في قراءة الخرائط بمرافقتهما. استلطفت ويلي الألماني الأصل، وأثارت دردشتهما على السور بين حديقتيهما الأقاويل. كان بطل برنامج مسابقات إذاعي شهير، وهجر زوجته لاعتقاده أنها خانته. قصد باكوس مارش حاملاً كتبه وخرائط لألمانيا، لكنه لم يستطع التأقلم وعوّض بقراءة الكتب والخرائط والحلم بالتجوال في أوروبا. كان حزيناً، لطيفاً، ساذجاً خلافاً لتيتش الذي التصق بالرجال النافذين بعد وفاة والده، وقلّدهم بكثرة الشرب ومطاردة النساء. علّم في المدرسة، وطُرد بعدما تشاجر مع طالب عنصري وأدلاه من النافذة. يحفل أدب كيري بالحركة خصوصاً حين يتعلّق الحدث بالسيارات، رفيقة طفولته. يصف المرور السريع للمتسابقين على الطرق المغبرّة، الأنهار المجففة، الجداول الفائضة، الحجارة المتساقطة بفعل مرور السيارات، وظهور الكانغارو الذي يقفز فجأة في الظلمة أمامها. تتوالى مشاهد جميلة تناقض الاكتشاف القاتم الذي يتربّص بالمتسابقين، ويحوّل المسار من سباق إلى محاكمة للماضي المخزي. يذوب الغروب الأرجواني فوق التلال القاحلة التي كانت يوماً شعباً مرجانية، وتلتوي الأنهار البنّية وسط خضرة باذخة. لكن الجغرافيا تتحوّل تاريخاً حين يعثر الزوجان بوبز وويلي على مقبرة جماعية للسكان الأصليين. تحضن آيرين جمجمة طفل هشة ومذرذرة كبيضة إيمو (طائر يشبه النعامة) وتضعها على المقعد الخلفي للسيارة. «إذا كان هذا قلب بلادنا» يفكر ويلي «لم أرَ شيئاً متحجراً، فارغاً، لانهائياً، خالياً من الحياة مثله إلا لدى الحدآت الضارية». تفضح الرحلة ضعف زواج آيرين وتيتش، ويكتشف ويلي ماضي أسرته القاتم الذي يمنعه من متابعة السباق. يفكر ابنه في نهاية الرواية أن حياة والده مضت وهو يصارع الأزمة الأخلاقية الناجمة عن خطيئة تاريخية رهيبة.