هو الفيلم الثالث في فيلموغرافيا حديثة نوعاً ما من حيث الإخراج، عرفت خروج فيلمي «موسم المشاوشة» (2009) و «خلف الأبواب المغلقة» (2013) من قبل. حديثة هنا بمعنى التحديث الزمني، وليس من الحداثة كتصور للإبداع والحياة. على رغم أن وضوح يد عزيز الحاكم الذي شاركه المخرج في كتابة السيناريو واضحة، هو الشاعر المعروف والمسرحي والكاتب المهتم بالجماليات. فالارتكاز على الشكل الفضائي المغلق كتصوّر لمجريات الأحداث الفيلمية من ثوابت سينما تأمل وتفكير نابعة من أساسيات العرض المسرحي. هل تم التوفق في خلق المتعة والفرجة وخلق الإثارة التأملية من هكذا مقاربة؟ لا نملك تأكيد ذلك ولا نفيه، فالسينما هنا في هذا الفيلم تبين تواتر أحداث مع حبكة ونهاية منطقية، مع إشارات منتثرة هنا وهناك تحاول أن تستنطق واقعاً مغربياً وعربياً صفرت فيه رياح ما سمي ب «الربيع العربي». الحدوثة يؤدي الممثل المخضرم عز العرب الكغاط في هذا الفيلم، دور ضابط عسكري من درجة عالية يقترب من مرحلة أواخر أيام عزه المهني. نؤكد على ذكر اسم الممثل لأنه حاضر كلية في العمل، ويصبغه ببصماته. رجل أَلِف التسلط والتحكم، ولا يقبل المشاركة والاختلاف. يتأكد ذلك من خلال احتلاله للصورة في الوسط وتحت ضوء خافت غالبا، لتأكيد عزلة «مكتسبة» ككل متسلط. يعيش في منزل فخم وواسع رفقة حراس وخدم. وينتقل إلى خروجات ليلية في أماكن منتقاة بعناية حتى لا يختلط بما دونه، ليسهر رفقة الكأس. إلا أن التحكم يود دائماً وجود منافس، ولو لتزجية الوقت أحيانا. لكن الفيلم، لخلق أجواء الحدوثة ونشر عناصر تطور درامي محتمل، بحث عن معادل له يخضع لنزواته وطباعه وفي نفس الوقت ينافحه ويناقضه. وليس أفضل من عنصر نسوي، كما يحصل في الغالب. يبقى تجديد البورتريه الأنثوي وتمييزه عما سبق رؤيته، كما يقال. هذه النقطة تحققت بوساطة أداء ممثلة من عيار أصيل هي نفيسة بنشهيدة. فقد أدت دوراً مركباً. دور امرأة تجاور الضابط. يراها فيغرم بها، أي بهدف تملكها كالأخريات، فيتزوج بها. في البداية تلعب دورها كزوجة، لكن ما تفتأ تكتشف بأن المنزل الذي تعيش فيه هو عبارة عن سجن مذهب، لا تملك أن تقول فيه كلمتها كما تريد، ولا أن تتصرف وفق هواها. هذا في الداخل. أما بالنسبة إلى الخارج، والمُجسد في الرغبة في المغادرة من حين لآخر، لممارسة هوايتها الحميمة التي هي الغناء الشجي والعزف على البيانو كرمز للالتقاء بالذات والحرية الفردية، فهي مجبرة على التنازل عنها. الدور الذي يلزمها في نظر الزوج المهم هو الرضوخ له هو فقط. وهكذا ينغلق عليها حصار من كل جانب. وكل الفيلم هو محاولات متعددة بتشويق مأمول وإثارة مرغوبة لفك هذا الحصار. الحصار المزدوج في حقيقة الأمر. فالبطل بدوره محاصر، وإن لم يدره حقيقة ويعيه. حصار رمزي من الأوهام والكليشيهات التي تعملقت، فصارت في عرفه حقائق هو وحده مالكها وصاحبها. وفد أبانه الشريط تباعاً، لكن من طريق الحوارات المركزة في الغالب، والتي لم ترافقها اجتهادات على مستوى الصورة التي كان يجب أن تبوح بالمكامن لكل من الشخصيتين الرئيسيتين، وشخصية العسكري الذي يربط بين الضابط ومجريات الوقائع في الخارج، خاصة وأن الأمور تغلي مجتمعيا. طبعاً هنا سلف حكائي واضح مما جرى في العالم الغربي ذات زمن تمرد على الحكام كما نقلته شاشات التلفاز بالطول والعرض. الصورة ظلت حبيسة استاتيكية كلاسيكية ناقلة وتابعة في فضاء تصوير داخلي ترافق التطور الدرامي الكلامي. ومما قلل نوعاً ما من التنافر هو الإضاءة المتخيرة المنسحبة نحو الخفوت والتظليل والتضاد. ويمكن التدليل على هذا الاتجاه الإخراجي بسببين. الأول مادي راجع إلى أن إنتاج هذه الفيلم خاص وغير مدعم، وبالتالي لا بد من التقليل من المصاريف عبر تفضيل التصوير الداخلي والحوار لتنمية السرد، أي الاعتماد على القدرات الذاتية من إبداع واختلاف للمواقف التي تمكن من الأفلمة الناجحة. هو ما يتيحه السبب الثاني الذي له طابع فني، بما أنه يعود إلى المعطى المسرحي الذي تبدو العديد من أساسياته هنا. تطر إخراجيّ كيفما كانت الحال، يظل هذا الشريط علامة على تطور في ميدان الإخراج حين يكون التعاون مثمراً. ونستشف قدرات على تطويع الصورة السينمائية وعدم الاكتفاء بطابعها «المُصور» للحركة والثبات. كما أن إدارة الممثل تميزت بتواطؤ إيجابي بين الممثلين والمخرج، حتى في الأدوار الثانوية التي كانت مهنية مثلما يبرهن على ذلك دور الخادمة الطيب، في خلق الرابط حين تسلتزم الوقائع ذلك بين عالم الأسياد وعالم الحاجة إلى تلمس الصدى من طرفها لدى مخدوميهم. نال الفيلم جوائز في مهرجانات عديدة: أحسن ممثلة في أفريقيا لنفيسة بنشهيدة في بوركينافاسو، وأفضل ممثل لعز العرب الكغاط في مهرجان السينما العربية بمالمو السويدية. نوعية هذه الاحتفاءات تؤيد بشكل واضح قراءتنا لهذه الفيلم الذي كان شجاعا في اعتماده على إمكانات خارج الدعم، لدعم السينماتوغرافية المغربية وإن كمياً وفرجوياً. وهو ما ليس هيناً. فالسينما مقاولة عجيبة ومنهكة في الوقت ذاته.