هو عصر رقمي، مئات الصور والفيديوات والنصوص تتدفق أمام أعيننا يومياً عبر وسائل التواصل الاجتماعي، منها ما يتحول إلى شبه أيقونات يعاد نشرها آخر العام كحصيلة تعبر عن مجريات الأمور التي حدثت. الصور التي وصلت إلينا من سورية هذا العام لم تختلف كثيراً عن تلك التي وصلت خلال الأعوام التي قبلها، ربما سادها أكثر لون أخضر خاص بحافلات التهجير والتغيير الديموغرافي، صور حلب بعد «التطهير»، صور الرقة ودير الزور، صور ملاحم «داعش» الهوليوودية... كلها مؤثرة بطريقتها، وتنقل أحداثاً على المرء التوقف عندها، لكن من بين ألوف الصور التي شاهدتها منذ مطلع 2017 علقت في ذاكرتي صورة واحدة أكثر من أي صورة أخرى. صورة لم تلتقطها يد إنسان، تتيحها شركة غوغل عبر برنامجها «غوغل إيرث»، تظهر جانبَي منطقة خط التماس الفاصل بين منطقة سيطرة المعارضة في جوبر قرب دمشق، والأحياء القريبة من ساحة العباسيين الخاضعة لسيطرة قوات النظام السوري، وبقليل من التقريب والتركيز تمكن مشاهدة الخنادق المحفورة والسواتر المرفوعة للفصل بين المنطقتين، لكن المهم أنك إذا كُبّرت الصورة وعُرض قسمها الأيمن المعارض على أحدهم، لظن أنها صورة قرية ما في منطقة صحراوية، أو حتى أطلال مدينة قديمة جار عليها الزمان. هنا، حرّك الصورة لتظهر للمشاهد الجانب الآخر منها، صورة منطقة سيطرة النظام حيث الأبنية مكتملة ومنسقة بتنظيم مدني واضح تتخله مساحات خضراء... وتأمل وجهه. أدمنت حمل هذه الصورة في هاتفي، وعرضها كالمهووس على زملاء وصحافيين وكل من يظهر بعض اهتمام بالحالة السورية، زميل يمني، رفاق لبنانيون، سائق تكسي من مؤيدي «حزب الله»، أقرباء «رماديون» لا مبالون... وبعد أن يستوعب المشاهد دهشته تجاه الفرق بين جانبي الصورة أقول له بهدوء مشيراً بأصبعي إلى الجانب الأيمن المهدّم: «يقولون إن الناس هنا هم الإرهابيون». أتابع موجهاً حديثي إليه، تخيل واقع أن هنا، في الأبنية الجميلة قرب ملعب العباسيين هناك أناس يعيشون حياتهم على نحو شبه طبيعي، وهذا مفهوم. طعام وشراب، كهرباء وماء، ورحلات وسهرات... تخيل ليلة رأس السنة أن عائلة هنا تسهر وترقص وتتعشى عشاء فاخراً، عشاء قد تصل موسيقاه إلى بعد بضع مئات الأمتار أو كيلومتر واحد، حيث هناك عائلات لم ترَ نور الكهرباء منذ أكثر من أربع سنوات، هناك حيث لم تترك البراميل المتفجرة زجاجًا للنوافذ، ورفع الحصار أسعار المواد الغذائية الأساسية أضعافاً وأضعافاً، هناك حيث يمضي الأطفال نصف يومهم في ضخ المياه يدوياً من آبار سطحية ملوثة، ونصف يومهم الآخر في حملها إلى منازل أسرهم. أما أن يكون لك أب أو ابن أو أخ مريض بمرض مزمن عضال، فهذه مصيبة أكبر، فمن يحاصرك، يمنع الدواء الذي يبقي مدنيين على قيد الحياة، حتى ولو كان بعضهم قد كفر بالثورة وبكل عمل ضد النظام... العقاب يستمر ويستمر، هذا نظام لا ينسى ولا يسامح، نظام تدخل في مساوماته أرواح أطفال خدّج وأولاد مصابون بالناعور، مساومات على حياة المدنيين برعاية الصليب الأحمر والأمم المتحدة. قد يقول قائل «هذا كله نعلمه»، صحيح أننا نعلمه، المصيبة أننا اعتدناه. مأساة النساء في الغوطة ملف مرعب وحده، عائلات لا عدّ لها تعيلها نساء عظيمات كنّ ربات منازل في وقت تندر فرص العمل للرجال، ويزداد التضييق على النساء. منها عائلات متضخمة بالتحاق الأب والأم بعائلة الابنة التي فقدت زوجها، فهو إما اعتقل على حاجز للنظام، أو تولى قناص مجرم أو برميل ساقط نقله إلى مكان لا جوع فيه ولا حصار. هؤلاء النساء، رواية نصف نهار واحدة منهن تستحق كتباً تؤلف وأفلاماً تسجل. أتاحت لي علاقات عمل وصداقة أن أحافظ على تواصل دوريّ بأصدقاء وصديقات في الغوطة، وعبرهم وصلت إلى بعض هؤلاء النساء: تقاطع روايتهن وتأكيدات الأصدقاء، تجعل مكالمة من 10 دقائق تشعرك بالذنب لأيام طويلة، ذنب يرافق كل لقمة تبتلعها وكل دفء تتنعم به، على رغم أنهن لم يطلبن منك سوى الدعاء... تنهي المكالمة وتنطلق إلى عشاء عمل رسمي في بيروت، كلفة الشخص فيه تعيل أسرة متوسطة في الغوطة خمسة أيام. صورة جوبر والعباسيين لا تظهر من هو الإرهابي، إنما تظهر كيف يمكن لنظام أن يحوّل إنسان إلى مشروع إرهابي، أن يحقنه بكل ذاك الغضب وتلك النقمة، كم هائل من البؤس واللاعدالة، أولاد يتضورون على حافة الجوع وأنت كرب أسرة لا حول لك ولا قوة، حتى ذل انتظار سلة غذائية تقدم لك صار أبعد وأبعد مع تشديد الحصار وارتفاع الأسعار. لا شك في أن فصائل مسلحة كالتي تتولى مقاليد الأمور في الغوطة ارتكبت ما يكفي ويزيد لتفقد أي دعم أو تضامن أو ما شابه، لكن الأكيد أيضاً أن ما يزيد عن 300 ألف إنسان مدني أغلبهم فقد كل شيء أو يكاد، ويقف على حافة الموت جوعاً ومرضاً ويأساً وغضباً... كثيرون منهم يقولون من الداخل: أي قبول بالأسد، صانع هذه الصورة، لمرحلة مقبلة، هو عنصر أساسي في إعادة إنتاج العنف، إن لم يكن اليوم، فغداً.