يحكي الوثائقي التلفزيوني الإسباني «ساحل بحر من البلاستيك» قصة المهاجرين العاملين في البيوت البلاستيكية لزراعة الخضروات في مدينة «ألميريا» الجنوبية، وخلال سرده إياها يصف كيف يمضون فيها سنوات من عمرهم في ظروف عيش يتعرضون فيها لأبشع أنواع الإستغلال. ويصف الفيلم المكان بأنه «بحر من البلاستيك، غير موجود على الخريطة، يمتد على طول آلاف الهكتارات بمحاذاة سواحل المتوسط». ولأنه غير ظاهر على الخرائط يسهل فيه استغلال العمال القادمين من الضفة الأخرى أملاً بالحصول على فرص عمل يُحسنون بها مستوى حياتهم هناك، لكن الواقع كما يستقصيه الوثائقي يقول كلاماً آخر، محزناً، أراد الدخول اليه مباشرة عبر مجموعة من المهاجرين المغاربة يعملون منذ سنوات في «البيوت الخضراء» ويعيشون بالقرب منها في أكواخ يبنونها بأنفسهم. خاماتها البلاستيك المتطاير من سقوف المزارع، يستحيل وصفها في كل الأحوال ب «المنازل» كما يقول عبد الله طاهر: «نحن نبني خيمنا من البلاستيك، ندعمها بألواح خشبية بسيطة. هي ضيقة تكفي بالكاد لشخصين». في ذلك المكان الخالي من أبسط شروط العيش، حيث لا كهرباء ولا ماء، يعيش المزارع المغربي منذ ست سنوات ويشكو فيها من حر الصيف وبرودة الصباحات القارسة. يجلب الماء من أعلى التلة القريبة ويخزنه في «خزانات» بلاستيكية صغيرة لأغراض الاستحمام والشرب. «هذه ليست أوروبا. إنها مكان بائس نقبل العيش فيه لأننا ببساطة غرباء لا خيارات أمامنا»، يكمل طاهر متذمراً ويتفق معه طبيب من منظمة «أطباء بلا حدود» المبادرة لتقديم خدمات طبية مجانية للعمال المهاجرين لافتقار غالبيتهم للوثائق الرسمية وبالتالي استحالة مراجعتهم للمؤسسات الصحية الإسبانية. «البقاء في هذه الأمكنة مدة طويلة، وتخزينهم المياه في «حاويات» بلاستيكية خطر على حياتهم، وقد تسبب رداءتها وعدم صلاحيتها للاستخدام البشري في إصابتهم بأمراض سرطانية». أكثر العاملين في المزارع البلاستيكية من الأفارقة. الحاصلون على إقامة رسمية منهم يمكنهم استئجار بيوت بسيطة بالقرب من مركز المدينة. لتقصي ظروف عيشهم يقابل الوثائقي مجموعة منهم. ويخرج بمحصلة تفيد بأنها ليست مثالية، ميزتها الوحيدة توفرها على الكهرباء والماء أما بعدها عن المزارع فيسبب لهم قلقاً من احتمال فقدانهم فرص العمل إذا لم تتوفر عندهم وسيلة نقل تقلهم الى «البحار البلاستيكية». الى الوثائقي تحدث جيمس (19 سنة) الآتي من إحدى الدول الأفريقية منذ أسبوعين: «جئت بناءً على نصحية صديق لي يعمل في المزارع البلاستيكية. وصفه الحياة هنا بالجيدة شجعني، لكني أرى الأمور مختلفة تماماً». يخرج جيمس صباحاً الى ساحة المدينة في انتظار وصول سيارة أحد أصاحب المزارع، ليأخذ كل يوم عدداً قليلاً من الواقفين في انتظاره ويفضل هو دائماً «اللاشرعيين» منهم، لسهولة استغلالهم واستحالة تقديمهم شكوى ضده إذا ما استغل قوة عملهم أو دفعه لهم أجوراً أقل من المقرر رسمياً بكثير. الناشط النقابي بيتيل مندي، يشرح للقادمين الجدد القوانين ويشجعهم على التقدم بالشكاوى إليهم إذا شعروا بالحيف أو بأي شكل من أشكال الاستغلال. يقول بألم: «يتقاضى هؤلاء أقل من نصف ما يتقاضاه العامل الإسباني ولا يمكنهم على رغم ذلك الاعتراض، لأن أصجاب المزارع وحال سماعهم تذمراً منهم يسارعون إلى طردهم من العمل». يلتف حول النقابي عدد منهم، تتصاعد شكواهم اليه من تلكؤ أصحاب المشاريع الكبيرة في دفع مستحقاتهم مقابل عمل صعب يقدمونه من دون استراحة ويمتد لساعات طويلة. على خط النقابات تدخل الشرطة في محاولة لوقف تمادي استغلال اصحاب المزارع البلاستيكية للمهاجرين، عبر ادانتهم بخرق قوانين العمل وحقوق الانسان، من خلال توفير أدلة تجرمهم أمام القضاء، أهمها القاء القبض على العمال غير المرخصين داخل مزرعتهم، فيما تنسق دوائر الشؤون الإجتماعية معهم لوضع حد لامتصاص دماء المهاجرين الفقراء بطريقة بشعة وبأساليب مذلة لكرامتهم. يكشف الوثائقي أكاذيب أحد مُلاك المزارع وشكواه من كثرة دفعه الضرائب وقلة مردود بيوته البلاستيكية، من خلال عرضه حقائق مكتوبة على الشاشة، تصاحب كلامه، تفضح حجم أرباحه الحقيقية وقلة مدفوعاته للعمال. يعترف النقابيون بقوة «لوبي» المزارعين وتستر المؤسسات المحلية على خروقاتهم القانونية واعتمادهم في شكل كبير على قوة الأيدي المهاجرة الرخيصة وأساليب تهربهم من التزاماتهم الرسمية، مثل التأمين الصحي والتعويض عند الإصابة في مكان العمل. واحدة من أسوأ نتائج العمل داخل «البيوت الخضراء» المغلفة، استنشاق العمال المهاجرين المبيدات الكيماوية المستخدمة لحماية المحاصيل الزراعية من الإصابة بالتسوس. داخل كوخه البائس يعرض بالا كيتا بقايا أدوية احتفظ بها في حقيبة صغيرة، تحسباً للحاجة إليها في بلده مالي الذي ينوي زيارته للمرة الاولى، بعد عمل في المزارع زاد عن عشر سنوات لم يحصل خلاله من أصحابها على أي ضمان صحي: «هذه أدوية حصلت عليها من «أطباء بلا حدود» لعلاج أمراض أصبت بها نتيجة عملي في رش المبيدات الكيمياوية. أصبت بعجز كلوي والتهابات مزمنة في الجلد». بعد شهرين يقابل الوثائقي كيتا ثانية ويستمع إلى تجربته في وطنه: «عدت لصعوبة الحصول على عمل هناك ولعدم توفر الأدوية. سأحاول الرجوع لعملي السابق وأقبل بأقل الأجور ومن دون ضمانات. لا خيارات أمامي، ففي النهاية نحن سجناء المزارع البلاستيكية!».