في كل مرة يقع اعتداء إسرائيلي، أو انتفاضة أو غضبة فلسطينية تبزغ أعداد غفيرة من طلاب الجامعات المصرية تعبر عن غضبها، وتعلن تضامنها، وتهتف «بالروح بالدم نفديك يا فلسطين». وظل الصراع العربي- الإسرائيلي، وفي أقوال أخرى القضية الفلسطينية، ملفاً شبابياً يتفجر مع كل اعتداء إسرائيلي، حيث تظاهرات بعضها يناشد نصرة فلسطين وبعضها مطالب بالزحف نحو القدس. وظلت التحركات الطلابية تتراوح بين تنظيم الوقفات الاحتجاجية وتنسيق الخروج بتظاهرات ضخمة تجمع عدداً كبيراً من الجامعات الرسمية. ظلت فلسطين قضية حاضرة في الحركة الطلابية المصرية على مدى عقود هي عمر القضية ذاتها. هذه المرة، وعلى رغم فداحة الاعتداء، فإن رد الفعل يختلف شكلاً وموضوعاً لأسباب عدة. فمن انكشاف لحقيقة أغراض التيارات الإسلامية التي هيمنت على أنشطة الجامعات المصرية الرسمية لعقود طويلة واحتكارها لملف فلسطين، إلى سنوات سبع مضت من التوتر والشد والجذب في ربوع البلاد وعلى أرض الجامعات المصرية، إلى حالة من الواقعية المؤلمة المسلمة بقلة الحيلة، وإحباط شبابي منبعه انهيار مقولة «الصراع العربي الإسرائيلي»، إلى تمكن فيروس الاستقطاب من القضية برمتها، وأخيراً وليس آخراً الأجواء المعادية لفكرة التظاهر، بفعل رفض شعبي عارم وقبضة أمنية واضحة. «واضح أن الأمن توقع أن يحاول البعض من الطلاب التعبير عن غضبهم فتم تشديد التأمين في محيط الجامعات. وهذا شيء متوقع لأنهم يخشون أن ينتهز البعض الفرصة ويندس وسط الطلاب ليشيع الفوضى. لكن الغريب أن الناس العاديين كانوا معادين تماماً للتظاهرات المحدودة في داخل بعض الجامعات» وفق ما يقول حسام عبدالعال (20 عاماً) طالب في كلية التجارة جامعة القاهرة. لكن غرابة موقف «الناس العاديين» يعلله سائق أجرة علق في عقدة مرورية في محيط الجامعة قبل أيام بسبب التشديدات الأمنية، إذ صب لعناته على الجميع قائلاً: «هو إحنا ناقصين وقف حال؟!». «وقف الحال» المشار إليه يضرب المصريين بشدة على مدار السنوات السبع الماضية، وذلك منذ هبوب رياح الربيع. وعلى رغم تعاطف وتضامن وتأييد الشارع للرياح في بداية هبوبها، فإن تكرار هبوبها واستمرار ركوب أمواجها من قبل تيارات سياسية متناحرة أدى إلى حواجز نفسية كارهة لفكرة التظاهر في شكل عام. ولأن «ضرب المربوط يؤدي إلى خوف السايب» كما يقول المثل العامي، فإن إلقاء القبض على نحو 11 شاباً ب «تهمة» التظاهر من دون تصريح من بين «عشرات» الشباب الذين نظموا وقفة احتجاجية على سلالم نقابة الصحافيين في وسط القاهرة اعتراضاً على قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس أرسل رسالة واضحة في شأن التظاهرات. شباب ال «ميني» تظاهرة التي وقعت يوم 7 الجاري هتفوا «يسقط يسقط أي عميل. بنعاديكي يا إسرائيل» و «بالروح بالدم نفديكي يا فلسطين» و «يا أقصانا لا تهتم راح نفديك بالروح والدم». «الروح والدم اللذان ينبغي أن نبذلهما من أجل القدس ليسا حكراً على دين بعينه. والحقيقة وعلى رغم أنني غاضب جداً للقرار الخاص بالقدس وعلى رغم قناعتي التامة بحق الشعب الفلسطيني في القدس، فإن الهتافات التي تجعل من القدس مسألة إسلامية تحزنني». مارك فادي (طالب جامعي) كتب الكلمات السابقة في تدوينة له على صفحته على «فايسبوك»، وهي التدوينة التي تعكس صوتاً خافتاً لكن واثق يتردد في أوساط شبابية مصرية هذه الأيام. حوار مشابه دار بين مجموعة من الشباب والشابات في الجامعة الأميركية في القاهرة ممن شاركوا في مسيرة منددة بقرار نقل السفارة الأميركية حملت شعار «القدس عاصمة فلسطين». قال أحدهم إن «اختطاف ملف الصراع العربي الفلسطيني من قبل جماعات الإسلام السياسي ألحق الكثير من الضرر بالقضية إذ جعلها تبدو وكأنها إسلاميون يحاربون اليهود». واتفقت معه زميلته التي أكدت أنه حان الوقت لعرض المسألة باعتبارها مسألة دولة عربية محتلة وعاصمة عربية مغتصبة. وحين أظهرت زميلة لها تحفظها قائلة أن «القدس أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين» ردت البقية في نفس واحد أن «في القدس كنيسة القيامة أحد أهم مقاصد الحج لملايين المسيحيين حول العالم ولا تقل قيمتها الدينية لدى المسيحيين عن قيمتها لدى المسلمين». المسلمون والمسيحيون من الطلاب والطالبات من المصريين والفلسطينيين وجنسيات أخرى هتفوا هتافات عن عروبة فلسطين «فين الأمة العربية؟ فلسطين عربية» «تسقط إسرائيل وإللي بيدعم إسرائيل». وبين خفوت نبرة عروبة القدس وسطوع نجم إسلاميتها، تجدر الإشارة إلى أنه على مدى عقود طويلة تمكنت التيارات الإسلامية التي أحكمت قبضتها على الجامعات الرسمية من تحول القضية الفلسطينية إلى قضية دينية إسلامية، وهو التحول الذي ينعكس هذه الآونة خفوتاً في حدة الغضب ولوماً في أسلمة الملف. وعن أسلمة الملفات السياسية، سمة العصر الحالي تقول لبنى حسين (21 عاماً)، إنها تشعر بأسى كبير لهذه المغالطات والاختطافات. «أذكر أنه في أثناء اعتصام رابعة في عام 2013 كانت تظاهرات الإخوان تخرج بعد صلاة العشاء طيلة شهر رمضان وهم يرددون أغنية عرفت، فيما بعد أن مطربها شخص يدعى إبراهيم الأحمد وأنه معروف بأنه «منشد الثورة السورية». كانت كلمات الأغنية تقول: مصر إسلامية لا علمانية. تعجبت جداً لهذه الكلمات، إذ أنه كان من المفترض أن يكون الاعتصام وتظاهراته لأغراض سياسية. وعرفت فيما بعد أن الغرض كان سياسياً دينياً، وهو من ضمن ما أفقد الإخوان في مصر دورهم كمكون سياسي. نفس الشيء حدث مع القضية الفلسطينية التي يتعامل معها البعض باعتبارها قضية جهاد ديني وليس احتلالاً سياسياً وعسكرياً واجتماعياً. خسارة». خسارة تفتت الأمة العربية بين رياح ربيعية ثورية انقلبت حروباً دينية أو اقتتالات أهلية أو صراعات طائفية تواكبها حالة من الاستقطاب الشديد الدائرة رحاه داخلياً. وبدلاً من أن تكون الغضبات الشبابية موجهة صوب الاحتلال الإسرائيلي والقرار الأميركي، فإن جانباً كبيراً منها فقد بوصلته. بوصلة الشباب من معارضي النظام المصري توجهت صوب الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي لدجرة جعلت البعض يحمله في شكل أو آخر ضياع فلسطين في عام 1948، أي قبل أن يولد بست سنوات. كما أن بوصلة الشباب من المؤيدين توجهت صوب الفريق الأول واضعة إياه في السلة نفسها مع تيارات الإسلام السياسي ومطالبة إياه بتوحيد الصفوف وترجمة شعارات «على القدس رايحين شهداء بالملايين» التي كان يرددها الإسلاميون في كل فعالياتهم إلى حقيقة. وتتصاعد التلاسنات، وتتواتر المعايرات بين الفريقين، وكل منهما يزين صورة البروفايل بشعار «القدس عاصمة فلسطين» ولا يفسده إلا تضاؤل القدس أمام طوفان الأحداث والحوادث في أرجاء الشرق الأوسط الجديد. ما فعلته القدس هو أنها حركت قليلاً مياه الحراك السياسي الشبابي الراكدة، لكنه حراك لا يتوقع له الاستمرار.