تكاد الأرقام تنطق وحدها، بل إنّ مؤسّسة رأسماليّة معولمة كمصرف «كريدي سويس» لم يملك إلا الإقرار بالتناقضات المذهلة أمام أرقام الثروات المليونيّة والبليونيّة من جهة، وأرقام التفاوت في الدخل الفردي في «بلاد العم سام». ماذا لو أضيف إلى أرقام البنك السويسري الشهير، رقم أوردته وكالة «رويترز» في منتصف الشهر الماضي، عن وجود 4 ملايين شاب مشرّد في أرض «الحلم الأميركي»؟ ماذا عن تأثير تلك التفاوتات على مسار الديموقراطية في ركن مكين لها، وهو أمر لم تتوقف مؤسّسة ك «مجلس العلاقات الخارجيّة» عن تناوله منذ الأزمة الاقتصادية في عام 2008، بل أفردت له غير غلاف لمجلتها «فورين آفيرز» الذائعة الصيت؟ الأرجح أن هنالك رقماً يستطيع الرئيس المُغرّد دونالد ترامب التغرغر به طويلاً: باتت أميركا تضم حوالى 15.4 مليون مليونير (بعد أن أضيف 1.1 مليون خلال السنة الأولى من عهد ترامب)، ما يعني أن أميركياً من بين كل 20 هو مليونير! وأدرج تقرير «كريدي سويس» الرقم ضمن مؤشّرات قرب التعافي مالياً من أزمة 2008، مع التشديد على أن عدد أصحاب الملايين أميركياً بات أعلى بنحو 30 في المئة عما كانه في 2006. إذ لاحظ التقرير عينه أنّ البلدان كلّها، عدا الصين، شهدت انخفاضاً حاداً في ثرواتها، بل لا يزال مستمراً منذ 2007. وقبل أن يمعن ترامب في الغرغرة بالتفاخر، سجّل التقرير عينه أن أميركا بلد فقير تماماً، من ناحية معدلات الدخل الفردي. وفي مقابل تصدّرها لائحة أصحاب الثروات الطائلة (43 في المئة من أصحاب الملايين)، حلّت أميركا في مرتبة متدنيّة (ال21) في لائحة معدّل الدخل الفردي. وتشاركت تلك المرتبة مع النمسا واليونان (صاحبة الأزمة الاقتصادية المستعصية في الاتحاد الأوروبي)، بأن معدل الدخل الفردي فيها يقارب ال56 ألف دولار سنويّاً. الانتخابات والديمقراطية والتشرّد في المقابل، حلّت سويسرا في المرتبة الأولى في دخل الفرد سنويّاً (229 ألف دولار)، تلتها أستراليا (195 ألفاً)، بلجيكا (161 ألفاً) ونيوزيلندا (147 ألفاً) واليابان (123 ألفاً). نعم. أميركا المليونيرات هي أيضاً تلك التي يتساوى أفرادها مع اليونان الجنوب أوروبيّة، والغارقة في أزمة اقتصادية مستفحلة لم تفلح مبادرات «البنك الدولي» ولا مبادرات الاتحاد الأوروبي في إخراجها منها. في اليونان، أدى الأمر إلى وصول اليسار وحزب «سيريزا» إلى السلطة. ما علاقة التفاوت الفردي بوصول ترامب إلى الرئاسة، بل بذلك الشعور الواسع الانتشار بوجود انقسام ضخم في الشعب الأميركي، وتهديد جدّي للديمقراطية فيه؟ الأرجح أن تلك الأسئلة ربما وجدت سنداً آخر لها في رقم تداولته وسائل الإعلام العام أخيراً. إذ أوردت وكالة «رويترز» أن عدد الشباب والأطفال المشرّدين في أميركا وصل إلى 4.2 مليون في 2017، وفق دراسة موسّعة أجرها اختصاصيون في جامعة شيكاغو. وأحصت الدراسة وجود أكثر من 700 ألف مراهق بين سني ال13 وال17، من دون مأوى ثابت، ومثلهم حوالى 3.5 مليون بالغ شاب بين سني 18 و25 سنة. وأشار شباب كثر إلى أنهم أصبحوا في حال تشرّد للمرة الأولى، ما يعني أن الأمر يتعلّق بمشكلة تتفاقم باستمرار. وشدّدت الدراسة على التساوي في نسب التشرّد بين المدن والبلدات الريفيّة، مع انخفاض بسيط للتشرّد في الأخيرة. وفي منحى يدعو إلى طول تفكّر، وثّقت الدراسة أن معظم التشرّد يعانيه السود أصحاب الأصول الأميركيّة - اللاتينيّة ومثليو الجنس، وهم جزء أساس من المعسكر المناهض لرئاسة ترامب! هل أنها مجرد مصادفة، أم أنّ وراء الأكمة ما وراءها؟ هل يبقى السؤال معلّقاً أم يلقى إجابة عنه في انتخابات الكونغرس في 2018 أو الرئاسة في 2020؟