يستمر تفجر الفضائيات ابتكاراً وابتداعاً وانتفاعاً بما يمكن عمله (وأحياناً ما لا يمكن) من خلال الشاشات. فمن مشاهد آنية لتفجير هذه المدينة وفق ما ورد إلى القنوات قبل التفجير، أو تنفيذ حكم إعدام أصدرته هذه الجماعة في حق فرد من تلك الجماعة في وسط جماعة ثالثة إلى ابتكارات الاستوديو المتفجر، ضرباً وشتماً، أو تسخيناً للضيوف الحاضرين أملاً بالوصول إلى إنجاز انسحاب ضيف على الهواء، وحبذا لو تمكن طاقم الإعداد مع المذيع من الارتقاء إلى مرحلة التراشق بالأحذية. كل هذا الصخب – بما فيه الأحذية المتطايرة- ما زال يندرج تحت بند المقبول ولو على مضض، بخاصة أن المذيع على الأقل يتظاهر بمحاولة إطفاء النيران أو تلقي الحذاء الطائر نيابة عن الضيف مع اعتذار منه حفاظاً على «شرف المهنة» حتى وإن ظل قلبه يرفرف لفرط الفرجة بنجاح الحلقة وتحقيق نسب مشاهدة تعدّ سابقة. لكنّ مضضاً كبيراً يحدث حين يتفتق ذهن الشاشات عن سبق فيه سم قاتل. فالسبق الذي يجعل من قاتل سفك دمَ بريءٍ، إنساناً ذا قلب وفكر ورؤى قابلة للاستحسان أو الإعجاب أو الاقتداء، أو حتى يحقق قدراً من التعاطف أو التفهم لموقفه هو سبق شرير وعدم وجوده أفضل وأنفع للجميع. ملايين المصريين تسمروا أمام الشاشات قبل أيام ليتابعوا ما لدى عبدالرحيم محمد المسماري – الذي عرِف بلقب «إرهابي الواحات» – من أقوال حول العملية الإرهابية التي راح ضحيتها 16 فرداً من الشرطة إضافة إلى جرح 13 آخرين. الأقوال التي توقعها ملايين المشاهدين تراوحت بين معلومات حول التنظيم الذي ينتمي إليه الشاب المقبوض عليه، وأدوات غسل الدماغ التي جعلته يسلم نفسه وحياته لهذا الفكر المنحرف، وأسباب قدومه وأفراد جماعته لتطبيق أفكارهم عبر الحدود بدلاً من تركيز جهودهم على تأسيس دولة الخلافة حيث أتوا، وكيف تمكنوا من البقاء في الصحراء المصرية طيلة أيام قبل أن ينفذوا جريمتهم، وسواها من المعلومات التي افترضت الغالبية أن يزخر بها الحوار مع الإرهابي. لكن الحوار مع الإرهابي تحول إلى حديث غريب لا معالم أو رؤية أو فكرة له. بدا وكأنه مناظرة بين صاحبي فكر مختلفين، واتضح أن أحدهما متفوق على الآخر في القدرة على طرح الأفكار وتفنيدها والدفاع عنها أكثر من الآخر. وبدلاً من عصر الإرهابي ليتحدث عن معلومات الجريمة والتجنيد، تُركت الساحة له ليدافع عن فكره ويتحدث عن توجهاته بنبرة هادئة واثقة. وبدلاً من إعادته إلى مربع المعلومات، تُرِكت الساحة له مفتوحة على مصاريعها. فتارة يسأله المحاور عن ضميره وإن كان يؤنبه، وأخرى عن قلبه إن كان يؤلمه، وثالثة يجاريه في التكفير؛ إذ «لماذا قتلت رجال الشرطة؟» «لأنهم لا يطبقون شرع الله» «لكنهم مسلمون!»، وكأن قتل غير المسلمين مقبول. لكن المقبول على الشاشات لم يعد له حدود أو قيود. قيد مهم أكدته دراسات يفيد بأن التغطيات الإعلامية، بخاصة المرئية، عن العنف يمكنها أن تؤدي إلى مزيد منه لو لم يتم ترشيدها ودراستها جيداً قبل بثها. الدراسة التي أجريت بالتعاون بين جامعتين في كولومبيا وألمانيا حللت ما يزيد عن 60 ألف اعتداء إرهابي وقعت بين عامي 1970 و2012، ووجدت أن التغطيات الإعلامية التي دقت على أوتار المشاعر أدت إلى زيادة أعداد مثل هذه الحوادث. فبين إعطاء أصحاب النفوس المريضة أفكاراً للقيام بعمليات مشابهة، أو تسليط الضوء على الأفكار والأيديولوجيات التي تقبع وراء هذه الجرائم ما يمثل بروباغندا مجانية لها، أو حتى غرس مزيد من الخوف من مرتكبي تلك الجرائم بخاصة الذين يتبعون جماعات ذات أيديولوجيات راديكالية ما يسهل وقوعهم تحت وطأتها، خلصت الدراسة إلى ضرورة توخي الحذر الشديد أثناء التعامل الإعلامي، بخاصة المرئي، مع مثل هذه الحوادث والأشخاص المقترفين إياها. وجاء في الدراسة أن الجماعات الإرهابية تحصل على تغطية إعلامية مكثفة، حيث أخبار «طالبان» و «القاعدة» و«بوكو حرام» و «داعش» وسواها ملء السمع والبصر في محطات وقنوات وصحف العالم. كما أن الإرهابيين يحتاجون تغطية إعلامية لنشر رسالتهم الأيديولوجية، إضافة إلى بث الخوف وتجنيد مزيد من الأشخاص. والشاشات التلفزيونية بخاصة تقوم بهذه المهمة على أكمل وجه، حيث تقدم بالصوت والصورة كل ما تبتغيه هذه الجماعات. وأغلب الظن أن هذه الجماعات عاشت لحظات فرحة بطعم الانتصار والانتشار طيلة إذاعة الحوار مع إرهابي الواحات، إضافة إلى كل اللحظات التي تعاود فيها الملايين تحميل الحوار التلفزيوني الذي أنسن الإرهاب. دليل إرشادي، أعدته منظمة يونيسكو هذا العام للإعلاميين تحت عنوان «الإرهاب والإعلام»، يحوي خطوات وشروحات تساعد الإعلاميين على التعامل مع هذه المسألة بالغة الخطورة والتي أصبحت على طاولة كل مؤسسة إعلامية في الكوكب. يشير الدليل في مقدمته إلى أن الهدف منه هو مساعدة الإعلامي على القيام بعمله في إعلام العامة بما يحدث مع تجنب خطورة مساعدة الإرهابيين لتحقيق مآربهم في الانتشار وانقسام المجتمعات بين مؤيد ومعارض. وتحت عنوان «محاورة الإرهابيين» اتخذ قرار محاورة إرهابي وهو في حد ذاته قرار صعب. فهناك من يرى أنه سواء كان المحاور قاسياً أو حانياً على الإرهابي، فإن الأمر لن يختلف كثيراً. فمجرد إعطاء الإرهابي فرصة الحوار على قناة لها مصداقيتها، والتعامل معه وكأنه شخص يساهم عبر مناظرته في إثراء الشأن العام في حد ذاتها تكريم ل «الإرهابي» واعتراف به. ولكن هناك أيضاً من يؤمن بأن السعي الى إجراء هذه الحوارات واجب على كل إعلامي، وذلك لنقل المعلومات وتحليلها للمشاهد، وللتحذير من مثل هذه الأفكار وسن السياسات اللازمة لمواجهتها. ويخلص الدليل الإرشادي الى أنه في كل الحالات لو اتخذ القرار بمحاورة الإرهابي، فهناك عدد من القواعد التي يجب اتباعها. يجب مبدئياً الامتناع تماماً عن بث الحوار في أثناء عملية إرهابية أو التفاوض بين إرهابيين ورجال الأمن، إذ إن بثها في هذا التوقيت من شأنه تنبيه الإرهابيين وتقوية شوكتهم المعلوماتية. وفي حال كان الحوار يجرى بعد انتهاء العملية، يتوجب على المحاور أن يذكر نفسه دائماً بأهمية تفادي التحول إلى قطعة شطرنج يتلاعب بها الإرهابي ويجد نفسه جزءاً لا يتجزأ من اللعبة الإرهابية الكبرى. ويشير أستاذ أخلاقيات الصحافة الدكتور خافيير داريو رستريبو إلى أن من واجب الإعلامي أن يبذل كل جهده من أجل إعلام الناس بفكر الجماعات ومخططاتها، بخاصة أن ذلك يتيح لهم تقويم الإجراءات الأمنية المتبعة لحمايتهم والمطالبة بتغييرها أو تشديدها أو تعديل مسارها. كما يحذر من الأضرار التي يمكن أن تقع على شعوب بأكلمها نتيجة ضعف مستوى الإعلامي أو عدم قدرته على إدارة حوار مهم كذلك باحترافية وتمكن وذكاء، «فهذا من شأنه أن يعظم من شأن الإرهاب والإرهابي، أو على الأقل يقلل من حجم خطورتهما والأفظع قد ينجح في جذب التعاطف معهما». التعاطف مع الإرهابي لم يحدث في الحوار المذاع قبل أيام، لكن ما حصل هو أنه تحول من «إرهابي الواحات» إلى عبدالرحيم المسماري ذي الوجه الذي باتت ملامحه معروفة والفكر الذي أصبحت معالمه مسرودة. حديث المسماري لم يضف معلومات غير معروفة من قبل، كما لم يبث خوفاً أو توجساً من هذا الفكر. تحول المسماري من «الوحش الإرهابي» إلى «الضيف الإرهابي».